أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - قطار الشمال الاخير(مجموعة قصصية)















المزيد.....



قطار الشمال الاخير(مجموعة قصصية)


عادل الامين


الحوار المتمدن-العدد: 2834 - 2009 / 11 / 19 - 14:45
المحور: الادب والفن
    


اهداء لروح القائد الدكتور جون قرنق ديبمبيور


سر الرجل الذي تطارده الكلاب
أغلق محمد عثمان متجره ، كانت تمطر بغزارة والشوارع يلفها الهدوء .. فجأة مزق السكون واقع إقدام مذعورة تضرب على طريق الإسفلت، اختبأ عثمان خلف أحد الأعمدة كان المنظر غريب حقاً !! .. عربة نصف نقل تطارد رجل غامض تقطعت أنفاسه .. سقط الرجل على الأرض في المياه ، توقفت السيارة جوار الجسد المسجى ترجل منها ثلاث رجال تبدو عليهم القسوة الشديدة .. انهالوا على الرجل بالضرب المبرح بكعوب البنادق والهراوات.. ظل الرجل يتلوى ويئن حتى همد تماماً ، انطلقت العربة مبتعدة عم الهدوء المؤسف المكان فيما عدا أنفاس الاحتضار الأخير للرجل المسجى على الأرض في بركة من دماء.
خرج عثمان من مكانه وهرول نحو الرجل التعس في جزع كان الرجل يهزى بكلام غريب .. حكى كل شيء ثم مات بين الذي أخذ ، المواطن البسيط يحدق في ذهول وقد جلل الرجل سكون الموت ، كانت المنشورات المتناثرة حوله تعبث بها الرياح وقد اختلطت بالأوحال ومياه الإمطار.. أثرت هذه الحادثة في عقل عثمان ردحاً من الزمن ، لم يصدق أحد قصته ، حتى الطبيب ، شخص حالته بأنه مريض وقد وقع تحت تأثير السينما الأمريكية ويلزمه مزيد من الراحة " أي راحة هذه التي يعينها هذا الطبيب المسكين ؟!.. أن الصدفة وحدها هي التي أتاحت لعثمان الإطلاع على ذلك الجانب الخفي من الحياة ، خلف الكواليس . حياة لمناضلين الشرفاء ، الغزلان الوديعة وكلاب الصيد في قانون الغابة ، وقد روى لي عثمان القصة كاملة كشريط سينمائي طويل لحياة رجل مات على قارعة الطريق .
* * *
أسرتي بسيطة من الأسر للعمالية التي تقع بها مدينتنا عطبرة … والدي يعمل في مرفق السكة حديد تصنع أمي بعض الأشغال اليدوية من سعف النجيل أما بقية الأسرة فهم شقيقي أحمد الذي يكبرني بعدة أعوام وشقيقتي فاطمة متزوجه من رجل يعمل في إحدى دول النفط أبي من أعيان طائفة الختمية .. دأب والدي على تربيتنا تربية دينية حقيقية ، غرس فينا الصدق والأمانة … كان لوالدي مكانته في هذا المجتمع العمالي البسيط ، يأتيه صاحب حاجة مكسور النفس فيرد له البسمة ... اعتدت منذ الصغر رؤية بيتنا ملئ بالرجال والنساء ، كنت أتصفح المجلات والكتب التي يحضرها أبي .. كانت هذه الكتب تتضمن معاني كبيرة ، النقابات ، الاشتراكية ، الاميربالية كنت لا أعرف لهذه الرموز معناً وبعد أن تقدم بي العمر قليلاً عرفت أن والدي من أعضاء نقابة عمال السكة حديد ، عندما كنت صغير ، كان البوليس يداهم منزلنا مراراً ، كنت أختبئ في ثوب أمي ، ظلت أصاب برعب شديد كلما رأيت رجل الشرطة … كثيراً ما كان والدي يتغيب عن البيت لمدة تتجاوز أعوام عندما أسأل عنه أمي تخبرني أنه معتقل ، وترك هذه الكلمة بأصداء مؤلمة في نفسي … أن تصوري بأن يضع إنسان داخل حجره مغلقة مسألة مؤلمة فقد كنت أنصب الفخاخ للقطط التي تأكل الحمام .. كان القط يسقط في الفخ ويدور داخل القفص ويمؤ بأسى …ظللت أقارن بين النظرة في عيني القط الحبيس وعيني أبي كانت تحملان نفس المعنى … ومن ذكريات الماضي . أعطانا أبي أنا وشقيقي منشورات نبثها في الشوارع ليلاً … كانت مغامرة جريئة كادت تؤدي بحياة شقيقي عندما فاجئنا رجل الشرطة السواري ، طاردنا بحصانه ، اختبأت تحت عجلات عربة القطار تقف عند خط مهجور يمر بالحي الذي نقطن فيه ، ظل شقيقي يركض والحصان خلفه حتى وصل شاطئ النيل ، ألقى بنفسه في الماء وكعادة أهل المنطقة ، كان أخي ماهر في السباحة ظل يسبح حتى وصلى إلى مكان بعيد . خرج من الماء وملابسة تقطر ماء وقد سبب له ذهاب الحادث مرض الزمه الفراش مدة غير قصيرة ..
* * *
كنت يوما مستلقى على فراش أمام غرفة الضيوف يترامى إلى أذني صوت والدي وبعض الزوار يتداولون أمر المظاهرة القادمة بمناسبة عيد العمال العالمي .
- هذه ثالث مذكرة ترفع للحكومة . ولا حياه لمن تنادي
- للأسف الرئيس .. أضحى يحيط بنفسه بطبقة سميكة من القاذورات .
- أرجو أن يفهم الجمهور عدالة قضيتنا ولا يتبعون الإعلام المضلل ..
- أبتلع السوق الأسود كل مدخراتنا .
- هذا جحيم البنك الدولي القادم .
- لقد تعرضت المتاجر للنهب في المظاهرة الماضية الشيء الذي جعل الشرطة تطلق النار على المتظاهرين أدى ذلك إلى وفاة ثلاثة زملاء وجرح عدد من المواطنين .
- نحن لا نريد أن يتكرر ذلك .
ظلت أطراف الحوار تترامى إلى أذني ثم أخذتني عفوه. ما كدت اغمض عيناي حتى سمعت ضوضاء شديدة اعرفها جيداً ، داهم رجال أمن الدولة المنزل كالمعتاد … ولم يجدوا منشورات وخرجوا تتبعهم لعنات أمي وتدعو عليهم بالويل والثبور … كان هذا أبي .
* * *
أما أمي زين ابنة شائق القطار ، كانت تمتاز بسداد الرأي والعزيمة الماضية ، الفضائح حديث نساء المدينة ما عدا أمي التي كنت تلتزم الصمت واكسبها ذلك احترام نساء الحي … كانت تتحدث في التربية والاقتصاد فتخالها من كبار المفكرين مع أنها لم تكمل تعليمها الابتدائي عندما كان أبي يرسلنا نبث المنشورات في شوارع المدينة ، كانت تنتظرنا عند الباب وقد غطت الدموع عيناها ، فهي تعرف خطورة ما نحن ذاهبون إليه ، ترافقنا دعواتها الطيبة وتظل ساهرة طوال الليل حتى نعود . ومضت السنين تباعاً و انطوت صفحة مشرقة من النضال الوطني … وتوفي والدي في منتصف السبعينات خرجت كل المدينة لتشيعه إلى مثواه الأخير لا زالت أصداء ذلك اليوم ترن في نفسي ، شعر أبي بالأم شديدة في الظهر وخدر في الأطراف حملناه إلى المستشفى .. كنا نتناوب السهر على راحته أنا وأخي وفي ليله الوفاة سمعت صوته الواهن يناديني كأنه قادم من بئر جلست جواره في الفراش ، نظر إلى وقد اختفى ذلك البريق الآخاز من عينيه وبدتا زجاجتين
- آت لكم أن تتجهو إلى مستقبلكم وتتركوا العمل بالسياسة .
- لكن يا أبي
ضمني إليه بقوة .. ثم همد جسده الذي كان ينضح بالحياة تمصلت من يديه الباردتين برفق وأغمضت له عينيه ، إنقضت لحظات لا توصف ارتبكت ، فقدت القدرة على البكاء ، طاف بخيالي والدتي .. عندما تحضر صباحاً وتجده رحل .
* * *
جاءت والدتي مع لفيف من رجال ونساء الحارة وأحمد يجلس من ركن قصى يبكى بحرقه ، نقل جثمان والدي من المستشفى إلى البيت ودفن في مقابر المدينة وعدنا إلى المنزل الذي كانت تسودة الوحشة " كم كان إحساس بغيض عندما عدنا إلى البيت ولم نجد أبي " إنقضت أيام وذهب كل من حاله وبدأت الأحزان تنحسر تدريجياً … الشيء الوحيد الذي ظل عملاقاً في ذهني وصيه أبي الأخيرة … أخبرت أمي وأخي بالوصيه وإنه يجب احترام رغبة المتوفي .. ومضت الايام تباعاً عكفنا على الدراسة .. جلس أحمد لامتحان دخول الجامعة ولم تسعنا الفرحة لاحقاً عندما ثم قبوله في كلية الاقتصاد ، أطلقت أمي زغرودة شقت الحي الذي نقطن فيه وتقاطرت أفواج المهنئين إلى البيت أنا الوحيد الذي لم يعجبني نجاح أخي ، كان يسد الفراغ الذي خلقه أبي في البيت في يوم الوداع كانت أمي تحاصره بدعواتها ،كان أخي كنجوم السينما وهو يرتدي الملابس الجديدة التي ارسلتها شقيقتي من السعودية .. تحرك القطار .. حاولت جاهداً أن اخفي دموعي كان الموقف حافل بالشجن .. هذا نوع جديد من الرحيل ، ظل أحمد يلوح بيده حتى غاب القطار وعدت إلى البيت .. أمي يبدو عليها التوتر هذه أول مرة يذهب عنها أحمد بعيداُ وبعد عدت أيام استلمت الرسالة التالية فعدت إلى البيت:
- أمي وصلت رسالة من أحمد .
- انتظر يا ولدي .. لا تقراها حتى أحضر .
خرجت من المطبخ تقطر عرقاً جلست جواري وفتحت الرسالة .
الآسرة الكريمة
تحية طيبة وبعد
لقد وصلنا بالقطار بعد مسيرة طويلة إلى الخرطوم في منتصف نهار اليوم التالي .. فتعرفت على بعض الطلاب الجدد في القطار وصلت معهم إلى الجامعة كل شيء فيها مبهر مباني تاريخية عريقة ، هل تذكر الصورة في العملة أنها مباني المكتبة الرئيسية … وجدت شيء غريب .. كانت هناك صحف حائطية يصدرها الطلاب .. تشجب الحكومة علناً … هناك حرية في الجامعة لكنى لا زلت عند وعد المرحوم أبي لم أقرأ فيها حتى سطراً واحداً … يوجد بالجامعة طلبة من الدول الشقيقة .. لقد بأت الدراسة بصورة مكثفة أخيراً أستودعكم الله و اتركم في رعايته .
ابنكم أحمد الطاهر
طويت الخطاب ، لمعت عينا أمي من فرط السرور وأجبرتني على كتابه الرد فوراً .
أبني العزيز أحمد
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
وصلنا خطابك الذي طمئننا على أحوالك .. أبني إذا احتجت إلى مصاريف نحن مستورين الحمد لله ، لقد حصلنا على معاش التقاعد لوالدك وعملنا به متجر صغير اعمل فيه بالنهار ويعمل أخوك بالمساء .. أرجو أن تهتم بدروسك ولا تنحرف خلف أي تيار وتقبل سلام أمك المشتاقة
الجواب من أمك زينب
ظلت الرسائل تتوالى بيننا حتى أوشك العام على الانتهاء … كنت فرحاً ذلك اليوم ، سيحضر أخي وتظل نثرثر طوال اليوم … ذهبت إلى محطة القطار مبكراً وصل القطار ولمحت أخي يقف على باب عربة القطار وقد كساه الغبار تلصقنه بالأحضان قبل نزوله وحملت عنه الحقائب .. كانت أمي تتنظرنا عند الباب وفتيات الحارة يختلسن النظر خلف الأبواب المغلقة ، لقد عاد أبي الجامعة وهم شئ نادر في حي العمال .
* * *
بعد أن استحم وتغدي راح في سيات عميق ، جلست قربة كالقط من انتظار الاخبار … استيقظ عشائاً ونظر إلى باسماً
- طبعاً تنتظر الأخبار أيضاً الفضولي؟!
- لدي ما يكفيني من أخبار . خاصة عند جارنا العزيز
لمعت عيناه وقال في استسلام .
- إذاً لابد من تبادل الأخبار .
- هات ما عندك أولاً .
- هناك في الجامعة تنظيمات طلابية سياسية تختلف عن بعضها البعض ولكنها تثقف في عداءها للسلطة … هناك مظاهرات وهتافات لتعريض الطلاب.
- أين أنت من هذا ؟!
- أنت تعرف تماماً .. قسم والدي العظيم .. أني أمارس الرياضة فقط.
- وينحى منحى أخر عندما حدق في صورة فاطمة شقيقتي وزوجها المعلقة على الجدار .
- ما هي أخبار فاطمة .
- وضعت مولد ذكر … اسمته الطاهر
- أرجو أني يكون جسوراً كجده .
- أرجو ذلك ما خطتك لقضاء العطلة المملة
تشادي أحمد .
- سألتحق بسلك المحاسبين في السكة حديد للتدريب وأنت .
- سأجلس في المحل حتى ترتاح أمي .
* * *
مضت الشهور تباعاً وأنقضت العطلة الصيفية وعاد أخي إلى الجامعة ، وعدت إلى الدراسة كان هناك حافز قوي يحفزني للالتحاق بالجامعة فقد استهوتني تماماً وكانت أمي لا تنفك تطرى شقيقي أمامي وهذا يثير غيرتي .
كان وقع الزمن بطيئا في تلك الأيام الراكدة في بداية الثمانينات وأحمد يواصلنا برسائله الحافلة بالإثارة كان سرور والدتي عظيما بتلك الرسائل التي ترد إليها ما فتئت تجمعها وتضعها في إحدى علب الحلوى الفارغة وكثيرا فاجئيها وهي تأملها وتحملق في طلامسها .
بعد حين توتر الجو وبدأت الأخبار ترد بأن هناك إضطرابات في الجامعة ، بسبب تردي الاحوال المعيشية وكالعادة ملأت الشائعات الافق والمظاهرات تجتاح الشوارع والشرطة تطلق النار على الطلاب … أزعجنا لذلك وعرفنا بعد ذلك من المذياع ان الجامعة أغلقت أبابها وسيتم ترحيل الطلاب إلى ذويهم بأسرع وقت
ظللت لفترة استقبل القاطرات القادمة من الخرطوم دون جدوى . سألت العديد من الطلبة العائدين ، أسألهم عن أخي ، بعضهم لا يعرفه والبعض يقول أتن هناك بقية لم تأتي بعد . وبين هذا وذاك انزعجت أمي وتملكها المرض … عصفت بى الهواجس والافكار السوداء هل أصابه مكروه ؟"،،
ظلت أمتي نفسي بقسم أبي . ومضى أسبوعان أخي لم يحضر ، عزمت على السفر إلى الخرطوم …. كنت قد فرغت من امتحان دخول الجامعة لتوي …. هناك في الخرطوم كانت المفاجئة . أول مرة انزل عاصمة البلاد ن لم أدر من اين أبدا ن توجهت نحو حافلات يصيح الناس حولها بأنها تسير عبر شارع للجامعة واستقلت احداها ، هناك نزلت لأواجه الجامعة المحاصرة بالجنود ، سألت أحد المارة عن مكان الإستفسار عن الطلاب ، دلوني على عمادة الطلاب ، هناك وجدت قسم من أعضاء الاتحاد ، أعطوني قائمة بأسماء الطلاب المعتقلين ، لم أجد اسم أخي بينهم ، وقد أطلق سراحهم جميعا ، في قائمة المفقودين كان يقبع اسم أخي ومعه اسم طالب آخر يدعى جابر حاج التوم ،تملكني رعب وتوجس شديد وقفلت راجعا من نفس اليوم بالقطار إلى عطبره
لن أسطيع أن أصف لك ، الايام المروعة التي عشناها أنا وأمي ، أمي التي نحل جسمها واصبحت جلد بلا عظم … حضرت شقيقتي فاطمة من السعودية أصيبت بانهيار عصبي ولزمت المستشفى بين الحياة أو الموت ن تشتت جهودي بين اختي أمي ، كنت أعيش في كابوس مزعج ، في هذة الأيام الموت أفضل من الاختفاء ، ظلت تنتابني الهواجس ولااجد منها فكاكا … سمعت اسمي في المذياع مع الطلاب المقبولين في كلية القانون ، لم أعر الامر التفاتا للوهلة الأولى ما جدوى دراسة القانون في بلد تعيش شريعة الغابة . لكن لاحقا قررت بجدية السفر إلى الخرطوم والبحث الدقيق عن اخي … وكان يوم الفراق ، لحظات مرة تنازعني مشاعر عدة .
* * *
كنت أعرف كل شيء عن الجامعة ، كما كان يحكي أخي مقهى النشاط ، منتدى الفلاسفة / سينما النيل الأزرق … الملعب الشرقي ، هذه الاماكن التي كان يرتادها أخي … كعادة الطلاب في الجامعة كان يتندرون بالطلاب الجدد ويدبرون لهم المقالب الظريفة ، ومع ذلك لم يتعرض لي أحد لعلهم استشفوا الحزن الغريب المخيم على ، كنت أحاول الابتسام وسرعان ما تزوى الابتسامة حالما يحاول الطلاب التعرف علي وجذبي إلى ما يسوقه الطلاب وعقلي نائم ، كنت أعيش في وحده مع نفسي بين الأصدقاء وليس معهم …. ظل الحال على هذا المنوال حدث ذات مره أن التقيت بأحدى زميلات أخي في الكلية عن طريق الصدفة ، تدعى سلمى تعرفت على الشبه الغريب بيننا أخبرتني أنها رأت صورتي معه … وقد شاهدته مع صديق … آخر يدعى جابر في المظاهرات الأخيرة متجهين إلى السوق … ومنذ ذلك التاريخ لم تسمع عنهم شيئاً … ولاحقاً عرفت أن جابر التوم اصيب باختلال عقلي ويقبع تحت رعاية شيخ الزاكي في ضاحية الدروشاب الشمالية .. إذا اليوم التقطت طرف خيط ، يجب العثور على جابر أولاً .
* * *
في مساء يوم الجمعة توجهت إلى الضاحية التي يقيم بها الشيخ الزاكي : هناك دلنى أحد الصبية على داره العامرة ، كانت الدار تنؤ بالرجال والنساء والأطفال وصوت الطبول تهز القلوب هذاً بذلك الايقاع الصوفي الجميل …كانت الحلقة كبيرة والشيخ يدور في استغراق عميق ، عندما لمحني خرج من الحلقة واتجه إلي ناظراً في ود ، أخبرته بمقصدي اشار نحو غرفة عند طرف الغناء البعيد ، اتجهت إليها ودخلت من بابها الموارب وفي ظلال الضوء الشاحب لمحت جابر التعس .. كان يجلس متكوراً في أحدى اركان الحجرة يتلفت حوله في رعب ، أقتربت منه ، نظر إلى في هلع لحظات ثم انبسطت اساريره وهب من مكانه ساحياً السلسة الطويلة التي تقيد كاحلة وأحتضني بقوة صالحاً أحمد …أحمد … لقد عدت …ألم يقتلوك ؟!
- من هم الذين أخذوني ؟؟
نظر إلى جبر الله من ارتياب وانسحب بعيداً وتكور في مكانه وأخذ ينتحب بشدة ، اقتربت منه وجلست جواره ، ربت على كتفه في رفق .
- قل لي اين ذهب أحمد ؟ أنا أخوه محمد
نظر إلى جبر الله في حزن عميق وتمتم بعض الكلمات الغامضة بدأت أشعر بصعوبة المهمة التي جئت من أجلها ، إذ يجب على أن اكسب ثقته أولاً .
لذلك قررت البقاء عدة أيام .. وفي ذات مره حدثت المفاجئة ، بعد صلاة العشاء .. أجلسني جواره وانحلت عقدت لسانه وبدأ يتداعى .
* * *
خرجنا أنا وأخوك إلى السوق ، هناك وجدنا المتظاهرين تغص بهم الشوارع ، كانت الشرطة تطاردهم في جميع الاتجاهات والغاز المسيل للدموع يخنق المكان لمحنا رجل بملابس مرتية يضرب فتاة ، كانت تزحف على الارض مختنقة بالغاز ، انفلت أحمد ولكم الرجل بقسوة على بطنه ، اطاحت به بعيداً وهوى عليه لكماً وركلاً ، كانت الفتاة قد أغمي عليها وبعد ذلك توقفت عربة نصف نقل جوارنا وحجيتنا عن الانطار نزل منها أربع رجال طوقونا وحملونا إلى السيارة ذات النوافذ السوداء ثم فأرقنا الشعور … عندما افقنا وجدنا أنفسنا في غرفة مظلمة بها نافذة واحدة ، كان أحمد مقيد ومشدود على كرسي وأنا من غير قيود ، هناك رجل قاسي الملامح ذو سحنة أفريقية غريبة يتحرك أمامنا بعصبية ، كان يرتدي حذاء رمادي صاح فينا .
- استيقظو يا ملاعين .
أتجه نحو أحمد
- أنت لماذا ضربت الرجل .؟!
- كان يضرب الفتاة .
- وما شانك أنت ؟!
ثم أنهال عليه صفعاً ولكما حتى تورم وجهه وأخذ ينذف دماً ، أتجه الرجل نحوي وعيناه تقدحان شرراً .
- أنت عليك أن تلزم الصمت .
اشار إلى أحمد .
- أما هذا فلي معه شأن آخر .
شعرت ساعتها بأصابع باردة تعتصر قلبي ، هرولت نحو أحمد .
- لا تأخذوه .. أنه بريء وليس له أي ممارسة سياسية ، لكن هيهات أن يسمعوا ، جذبتني يدين قويتين إلى الوراء وسمعت صوتاً عميقاً يردد .
- - هذا الشخص رأي الكثير .
ولم أدر بعدها ماذا حدث شعرت بضربة قوية على مؤخرة رأسي واظلمت الدنيا في عيني ، عندما أفقت وجدت نفسي في قسم الحوادث بالمستشفى وأخبروني بأنه رآني أحد الصيادين وأنا أهوى من الجسر على النيل في ساعات الفجر الأولى فهب لنجدتي وأنقذ حياتي …
* * *
ظل جبر الله يروي حكايته في تداعي مرير وأنا استمع إليه في آسى . المسألة غدت اكبر مما كنت التصور في الصباح ودعت جبر الله وعدت إلى الخرطوم ، أرسلت خطاب اطمئن أمي وعزمت على مواصلة البحث ، علمت أن السجناء السياسيين ينقلون إلى سجن كوبر بعد سلسة من الاهوال .. بدأت الاحداث تتفاقم مرة أخرى عادت اضطرابات والقلاقل .. كانت الخطة تكمن في أن أعراض نفسي للاعتقال .. خرج الطلاب إلى الشارع وعادت الاشتباكات مجدداً لمحت الرجل الاصلع ذو السحنة الغربية والحذاء العجيب كما وصفه جبر الله .. اندفعت بين جموع الطلاب الهاربة وقفزت في الهواء وأهويت على الرجل سقط على الارض ، أطيق على رجال الامن وانهالوا على ضرباً حتى فقدت وعي ومات افقت لاجد نفسي في الغرفة الرهيبة مقيد على كرسي والرجل أمامي تغطي وجهه ضمادة .
- أنت محمد الطاهر الابن الثاني للنقابي الطاهر .
رأيت بطاقتي في يده وأردف
- إذا لدينا مزيد من الإبطال .
كانت هناك عصابة تلف رأسي ، نظرت إليه في قرف ثم بصقت على الأرض ، انهال علي الرج ضرباً ورفساً ونزع العصابة ونتف خيط الجرح ، شعرت بالدم الحار يسيل على وجهي وأغمي علي مرة أخرى توالت سلسلة التعذيب .. كان أقساها أنهم في ساعات الفجر الأولى ، عصبو عيني واخذوني بالسيارة وعرفت أنها تسير في شارع النيل وذلك لأن هواه البارد أنعش روحي ، بعدها رفعو العصابة عن عيني وفتح أحدهم باب السيارة ونكس رأسي حتى كاد يلامس الإسفلت والسيارة منطلقةبأقصى سرعة ، حاولت أن أغمض عيني فلم استطيع ، شعرت بغثيان شديد وأن أمعائي كادت أن تخرج من فمي .. بعد عده مشاوير أعادو العصابة إلى عيني وعادوا بي مرة أخرى إلى مقرهم الرهيب .. ظل الحال على هذا المنوال ، سمعت أنهم يريدون نقلي إلى سجن كوبر وفي سجن كوبر استقبلت استقبال الأبطال .. تحلق حولي السجناء ، شيوعيون ، جمهوريون ، قوميون ، وجمع الفئات الأخرى التي كان ينؤبها السجين في هذه الايام العصبية أخذت أتحسس عن من يخبرني عن أخي أو يعرفه كان هناك سجين يجلس منزوياً… كان ينظر إلى مراراً بعينين تحملان كثير من المعاني .. ظلت قوه خفية تشدني نحو هذا السجين …وذات مره فاتحني بالقول بأني أشبه سجين سابق كان معهم يدعى أحمد …قال : إن هذا السجين كان يعاني من حزن عميق وشعور بالذنب حيال أسرته وأنه سبب لهم الألم امتنع أياماً بلياليها عن تناول الطعام .. وأصيب بالملاريا وفي مرة أستبد به هياج شديد أخذ يضرب كل من حوله حضر الحراس وأخذوه إلى مصلحة السجن … أنتهى عبد الكريم السجين ثم الغامض من سرد قصة أخي … لم يلحظ بالدموع الغزيرة التي انسابت من عيني وكان هدفي الأن أن أجد طريقة تنقلني إلى المصحة … أن إدعاء الجنون من الأشياء السهلة التي اتقنها منذ أيام المسح المدرسي .. تعريت عن ملابسي وأنا أصيح في هستيريا في يوم الجمع الصبحي كانت صرخاتي المفزعة كافية لأن يأخذوني إلى المصحة.
* * *
هناك لم تمض مدة طويلة ، تعرفت على أحد أصدقاء أخي في قاعة الطعام حكى لي النزيل الذي كانت عيناه لاتستقران على موضع بعينه ، كان من الشيوعيين القدامي الذين ضاع نصف عمرهم في السجن ومصحات السجون وذهب نصف عقلهم من جراء ذلك ، أخبرني أنه استيقظ ذات يوم فجاه وليجد نفسه غارق في الدم ، قطع النزيل السرير الاعلى شرائية بموس حلاقة !!
إذا هذه النهاية المحزنة التي وصل لها أخي كان ميال للاكتئاب منذ الصغر ولا يرضى الظلم ،كثيراً ما تأثيه مشاعر ودوافع لاشعورية للانتحار .. خرجت إلى باحة المصحة ، رغم الزهور التي تغطي المكان … كان هناك ضباب كثيف من الدموع التي انسابت من عيني وأنصبغ كل شيء أمامي باللون الرمادي ، جلست على كرسي في الحديقة كان أتعس يوم في حياتي رغم أيامنا الكثيرة المؤلمة … قررت الهروب من مستشفى السجن ….وهربت .
* * *
تحت جناح الظلام دخلت المدينة ، توجهت نحو الجامعة ورأسي تنؤ بالافكار … التقيت سلمي التي كلفتها إن تراسل أهلي في غيابي .. أخبرتها بوفاة أحمد في مستشفى السجن .. أجهشت في البكاء ، كانت تحب أخي حقيقة ..في اليوم التالي سافرت عطبرة ... وجدت أبن شقيقتي طاهر مات بالحصبة ، طيبت لها خاطرها … أخبرتها بوفاة أحمد بالسجن زاد ذلك من تعاستها … جلست أيام العزاء وطفقت عائداً إلى الخرطوم وفي رأسي تدور فكرة واحدة … إسقاط النظام !! وانخرطت في صفوف القوميين كما ترى.
* * *
في الصباح تجمهر طلاب ومارة حول رجل ملقي علي قارعه الطريق ، كانت المنشورات تعبث بها الريح في كل مكان "مات محمد بن المرحوم الطاهر وعيناه مفتوحتان متى يعرف كل المناضلين الشرفاء أن الثورة الحرية الحمراء شمس لا تغيب" .
أبريل / 1984م

صرخة ميتا
(( عا آآوووه ………)) صرخة طويلة ممطوطة تشبه صرخة حيوان جريح تصحبها ضحكة مجلجلة تنم عن قلب مفعم بالطيبة ، تردد صداها جنبات مدينتنا عطبرة * ، تأتي دائماً عند الغروب ، تقشعر لها جلود الناس ثم تلين بعد ذلك ويعم السلام المدينة ، يضحك الجميع في طهر طفولي ، يشفى الأطفال المصابين بأمراض المناطق الحارة ، يتوقف العراك بين الأفراد والجماعات ، تنتهي المشاكل الأسرية داخل البيوت ، أنها صرخة صديقي ميتا ، وجدوه يوماً ملقي كعصا أبنوس سوداء سيئة التكوين ، عند ملتقى النهرين في منطقة الحلفا * .
حمله المواطنون من سكان الحلفا إلى أكواخهم البائسة . اسجوه هناك عند مريوم التي نظرت إليه فيه آسى ورددت بلكنتها العربية المكسرة (( إنها ميتا .. إنها ميتا )) فأسموه ميتا ، ومنذ ذلك الوقت لا يعرف أحد سر ظهوره الغامض على الشاطئ هل أتت به مياه النهر المتمرد نهر عطبرة الذي يندفع من الهضبة الأثيوبية حاملاً في طريقة الدمار والشرور ، جثث نافقة لمختلف الحيوانات ، جثث ناس ، وأخشاب وكائنات أخرى غريبة تحكي عنها الجدة الحرم * عندما نجلس معها في الليالي المقمرة ، لقد رأيت بنفسي وأنا صغير اندفاع هذا النهر المجنون و هديرة الصاخب الذي يبعث الرعب في القلوب ، وأنا جالس على نخلة أحدق في الأفق الشرقي .. تصتدم مياه النهر بشراسة بمياه النيل التي تبدو هادئة بعد رحلتها الطويلة من جهة الجنوب ويكون هناك فوران شديد في منطقة اللقاء أشبه بمرجل يغلي ، تطفوا أسماك نافقة تدور حولها طيور بحرية في وليمة احتفالية . هناك وجدوا ميتا تحت الجسر الحديدي الذي بناه الإنجليز لمرور قطار الشمال ، هل أتت به مياه النيل ؟؟ … لا أحد يدري فقط إنه أعلن عن قدومه السعيد عندما أفاق عند الغروب في بيت مريوم وأطلق صرخته الدواية التي تشبه صرخة حيوان جريح و انتهت بضحكة مجلجلة رددت صداها المدينة …..
* * *
كان صوت طلقات الرصاص يتداعى إلى أذني من بعيد ممزوج بهدير الأشجار في تلك الغابات المتشابكة التي تحيط بمدرسة القرية ، إني أعمل الآن معلماً بمدارس الجنوب . لم يكن اختياري للعمل في جنوب السودان بمحض الصدفة ، بل جئت بإرادتي ، والدي كان تاجراً بالأقاليم الجنوبية ومنذ أن غادر مدينتنا الوادعة في الشمال في ذلك الزمن البعيد لم يعد مرة أخرى ، انطلقت الإشاعات التي تردد بأنه تزوج من إحدى بنات سلاطين الجنوب وطاب له المقام هناك . أن ذكرياتي عن أبي الذي رحل وتركني صغير تبدو غامضة ومبهمة ، لا أدري هل أحتقره أم أحترمه ؟! . عانت أمي الأمرين لتربيني وتعلمني . عملت معلماً في مدينة كريمة * في أقصى الشمال لفترة ثم بعد تجربة حب فاشلة قررت العودة والسفر إلى الجنوب كانت أمي تخشى مثل هذا اليوم الذي قررت فيه السفر إلى حيث ذهب أبي ولم يعد ، لازلت أذكرها وهي تعدو جوار شريط القطار المبتعد حتى سقطت على الأرض وتعفر وجهها بالتراب كنت أبناً عاقاً عندما ضربت بتوسلات أمي عرض الحائط واندفعت في هذه المغامرة غير للما مونه العواقب في ذلك الجزء الذي يتصاعد منه الدخان . طافت هذه الذكريات بخيالي ولا زال صوت طلقات الرصاص يتداعى إلى أذني ، وعيون الأطفال اللامعة تحدق في توجس وحب عميق لي . كنت أحب تلاميذي من أبناء الجنوب ، بحثت عن شقيق يمكن خلف هذه العيون اللامعة والملامح السمراء ، أرتفع دوي هائل جوار المدرسة والطلقات تزداد قرباً وعنفاً وأصوات أقدام مذعورة على الشعب اليابس تقترب من المدرسة ، أوجست خيفة ولم أتمالك نفسي من الصراخ وأنا أرى حجرة المخزن تطير في الهواء متناثرة ، أصابتها قذيفة هاون ، دب الذعر بين الطلاب خرج الجميع إلى الفناء يتراكضون ثم انطرحوا أرضاً عندما صاح فيهم أحد المتمردين الذين قفزوا إلى داخل سور المدرسة القصير وهم يحاولون في يأس الرد على قوات الحكومة التي كانت تطاردهم ، دارت معركة شرسة وأنهمر الرصاص كالمطر وعلا صراخ الأطفال ، بدأت النار تشتعل المدرسة المصنوعة من الأعشاب والبوص وأنا مسجى على الأرض وقد التصق بي الأطفال كنت أحس بدقات قلوبهم المذعورة على جسدي ..تساقط المتمردين قتلى واحد تلو الأخر وعم الهدوء مرة أخرى ، مضت لحظات وحضرت الأقدام الثقيلة إلى داخل فناء المدرسة المحترقة فصيل كامل مدجج بالسلاح ، ظلوا يتجولون في حطام المدرسة ويقلبون الجثث في حذر شاهرين أسلحتهم الخفيفة وتنبه لي قائدهم ، أقترب مني وأنا دافن نفسي بين تلاميذي اللذين كانوا ينتفضون رعباً ، سحبني جندي من رجلي بقسوة من وسط كومة الأطفال وجذبني من شعري وتفرس في ملامحي جيداً ردد في غضب .
- أنت …………. مدرس !!
- نعم …….
- من أتي بك إلى هنا ؟
- الحكومة .
صفعني بغلظة وردد في استهزاء
- نحن أيضاُ أرسلتنا الحكومة !
أمرني أن أخفض رأسي ودوت الطلقات النارية من جديد ممزوجة بعويل الأطفال وعم السكون مرة أخرى ، كست رهبة الموت المكان ، لازلت أذكر دقات قلوبهم الصغيرة على جسدي ، رحلت العصافير الصغيرة وانسحب الفصيل وعم الهدوء المؤسف المكان ، نهضت أترنح دون النظر إلى الوراء أريد الهرب من هذا الكابوس الحقيقي ، أجتاح كياني شعور بالألم المرير ((هل كان أخي بينهم؟!)) … كنت أسيراً مترنحاً بين الأشجار أبحث عند حدود آمنة أعبرها كنت أريد الهروب من جسدي الذي تلتصق به قلوبهم الصغيرة ، أريد العودة إلى حضن أمي الطيبة في الشمال ، أريد أن أتحول إلى طائر يحلق بعيداً حيث لا أمنيات والكائنات تمر، أريد أن أدلي بأقوالي في محكمة عادلة عن الحرب ومجرمين الحرب ، قد أتحول إلى لاجئ تمضي به رحلة العمر الكئيبة في ضيافة شعب كريم ، ظلت أسير أياماً بلياليها على غير هدى في الغابة، كنت أتفادي دائماً طرفي الصراع ، بعد مسيرة ثلاثة أيام مضنية عند الغروب خيل لي أنني سمعتها !! .. نعم سمعتها هي نفسها !! … لكن ذلك مستحيل وشعرت بقشعريرة تجتاح جسدي ، أنها صرخة ميتا !! هل فقدت عقلي وأصبحت أهذي ؟؟ .. لقد أضناني الجوع والتعب من طعام الغابة الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، عن كثب حيث خيل لي مصدر الصرخة العجيبة كان يجلس هناك كعصا أبنوس مشوهة التكوين ، جلسة جليلة أشبه بأوثان الأديان البدائية ولهب النار يتراقص على وجهه الهادئ ، ما هذا الهذيان ؟!… إنه أبدا لن أبدا لن يكون صديقي ميتا تداعت إلى مخيلتي الذكريات المشحونة بالشجن وأنا أتقدم بخطى متعثرة نحو الرجل الذي يقبع على بعد أمام النار (( عرفت ذلك في يوم أغبر ، رحيل ميتا ، عندما عدت إلى مدينتنا من كريمة حيث كنت أعمل أولاً ، كانت نهايته أشبه بفواجع شكسبير ، كذلك أخبرتني مريوم الحزينة ، في ذلك اليوم المشهود كان هناك نفر من أفراد الجيش يحتسسون الخمور البلدية في بيت مريوم في الحلفاء كعادتهم دائماً بعد صرف المرتبات وميتا جالس بينهم يغني على قيثارته التي صنعها بنفسه أغاني بوب ماري التي يحفظها ظهر قلب ، كان الجميع سعداء لكن السعادة من هذا النوع لا تدوم طويلاً في مدينتنا ، داهمت الشرطة المكان ودارت المعارك بالأيدي والعصي بين أفراد الشرطة والجيش ، ثم تطورت الأحداث بعد أن حصل كل من الطرفين على تعزيزات مسلحة من المعسكرات في الجوار ، دارت معركة رهيبة بالذخيرة الحية ، أحزن ذلك ميتا ، فحاول التوفيق بين الأطراف المتحاربة ، للأسف اغتالته رصاصة ، أطلق صرخة ألم حقيقية لا تشبه صرخته المعتادة وسقط على الأرض مضرجاً بالدماء ، توقف القتال ألقى الجميع السلاح ، تحلقوا حول الجثة يبكون وينتفون شعورهم ، الجميع يحبون ميتا ، صانع الفرح في مدينتنا ، لا أحد يريد أن يتحمل أوزار موته أقبل الجنود من الطرفين إلى بعضهم يتلاومون وظل النزاع قائم بين سكان الحلفاء بعد هدأت الأحوال مرة أخرى (( هل يدفن ميتا في مقابر المسلمين أم في مقابر المسيحيين ؟! )) ، كان الراحل صديق الجميع ، في الماضي عندما غرق على ود فرحين في النيل جلس ميتا على الشاطئ مع المواطنين ، بعد ثلاثة أيام طفت الجثة ، قفز إلى النيل وأنتشلها وذهب مع المعزيين إلى المقابر للدفن ، وقبل أعوام ماتت تريزا بالذبحة الصدرية في ليلة الميلاد ، كانت تجهز بالونات العيد مع أسرتها وصديقهم ميتا الذي حزن عليها كثيراً وبكى بحرقة في الكنيسة ذلك اليوم .. استمر النزاع حتى ساعة الغروب عندما دخلوا إلى مكان الجثمان داخل غرفته الطينية الصغيرة في بيت مريوم لم يجدوه ن اختفى ميتا ! ومن جهة النهر حيث وجدوه أولاً سمعوا صرخته المعتادة وضحكته المجلجلة للمرة الأخيرة ، ومنذ ذلك اليوم عادت المدينة تمارس كآبتها القديمة ، كثرت الحميات والأمراض التي تقتل الأطفال ، ارتفعت المشاجرات وحاولت الطلاق ، عادت النساء إلى الانتحار باحتساء صبغة الشعر السامة والرجال بالاستلقاء على شريط القطار ، اكتسى كل شيء باللون الرمادي ، رحل ميتا الذي كانت ضحكته تطهر المدينة ، رمز الحرية في مدينتنا ، المتجرد من كل قيود الأديان والأعراق ، أنطوي حضوره الدائم أفراحنا وأحزاننا ، نحن سكان مدينة عطبرة ، مدينة النهر المتمرد … )) .
* * *
التفت الرجل الذي يسكن وحيداً في الغابة عندما سمع وقع الخطوات المتعثرة على الحشائش وأبتسم ابتسامة عريضة .
- السلام عليكم .
- عليكم السلام
- اسمي حمزة ، هل تسمح لي بالجلوس .
- تفضل على الرحب والسعة .. اسمي لوكا
هكذا تم التعارف كأننا التقينا في فليت أسريت في لندن ، كانت لغته العربية سليمة ، جلست وأنا أتأمل لوكا في فضول ، نهض إلى داخل الكوخ ثم عاد يحمل إناء به حليب ممزوج بعسل النحل ومده لي ، شربت حتى كدت أختنق واستلقيت من فرط الإعياء على العشب ورحت في سبات عميق واستيقظت في اليوم التالي فجراً لأجد نفسي نائماً على فراش وثير ، استجمعت ذاكرتي بقوة إلى أخر لحظة وصلتها أمس ، تذكرت الآن كوخ الأب لوكا ، أصبحت الصداقة بيننا عميقة في وقت وجيز لاحقاً فالرجل مثقف ثقافة عالية ، يعتنق جميع الأديان حسب ما تقتضيه الأحوال حتى يعيش في هذا الواقع المضطرب ، إذ يمر على كوخه جنود الحكومة والمتمردين أحياناً ، ظلت الحوارات بيننا سجال ، أحاديثه الغريبة تذكرني دائماً صديقي ميتا ، يتحدث كثيراً وكلامه ليس ثرثرة بل حديث عميق ذو دلالات وإيحاءات عميقة ، ذات صباح مشرق ونحن نجلس سوياً أمام الكوخ نشرب الحليب الممزوج بالعسل التفت إلي مردداً في مرارة شديدة .
- هل تعرف سبب هذه الحرب القذرة الدائرة الآن .
نظرت إليه في دهشة وبعد تفكير أجبته قائلاً
- أعتقد أنها مخلفات الاستعمار وقانون المناطق المقفولة .. *
ابتسم لوكا ابتسامة ناصعة البياض أضاءت وجهه الأسمر .
- نعم ذلك أحد الأسباب ولكن هناك سبب جديد الآن أنه الحليب الأسود ! اليانكي يحبون الحليب الأسود الذي في ثدي أمنا أفريقيا ، أينما وجد الحليب يأتون بالموت والدمار للمنطقة .
- إنها مأساتنا عبر العصور .
- منذ أن داس القرد الأبيض بقدمه بطن ماما أفريكا ، أصبحت تجهض أبنائها أو تلدهم مشوهين .
- نظرت إليه في دهشة ، خاصة للتعبير الغريب "القرد الأبيض " فأردف مسترسلاً .
- مات العم توم * وراء البحر وهو يحلم بالحرية المستحيلة التي لا تأتي أبداً أما ما تبقى من أبناء أفريقيا فقد حولوهم إلى مسوخ مشوهة ، قرود ترتدي الأزياء الغربية ويتحدثون لغة الفرنجة ، يعودون إلى أبناء جلدتهم بالويلات والدمار …
نظرت إلى الأب لوكا متسائلاً
- هذا يعني أنك غير مقتنع بالحرب الدائرة الآن .
- ضحك لوكا ضحكة مجلجلة تقطر بالأسى ونظر إلي ملياً
- كنت من جنود التمرد الأول في الماضي ، وإني اليوم نادم أشد الندم على ذلك كنّا نسعى لطموحات مريضة ، الانفصال !!. إن الحرب تسبب لنا التعاسة جميعاً نحن وحيوانات الغابة !! .
- حيوانات الغابة ؟ !!
- نعم .. قبل قدومك جاء إلى كوخي أسد حزين ، فقد زوجته وولديه بعد أن أنفجر فيهم لغم أرضي ، كثير من الحيوانات تحتمي بكوخي ، أرى التعاسة في عيونها .
- ألا تخشى حيوانات الغابة ؟؟
- لا …. أنا أخشى الإنسان فقط لأنه أكثر حيوانات الغابة انحطاطاً !
هكذا كانت أحاديث الأب لوكا الطيب حتى جاء ذلك اليوم المشئوم ، عدت من إحدى جولاتي في الجوار وجدت الكوخ يحاصره فصيل من المتمردين ، ينتزعون اعتراف من لوكا عن هوية من يقم معه ، كان المنظر بشع ، لوكا رجل شجاع صمد حتى فاضت روحه ، تركوه و انسحبوا ، اندفعت نحو الجسد الدامي والدمع يظفر من عيني مدراراً ولا زلت عالقة في ذهن عباراته الأخيرة "الإنسان أكثر حيوانات الغابة انحطاطاً" .….
* * *
دفنت صديقي جوار كوخه الصغير ، وتراجعت متجهاً جنوباً وبعد مسيرة أيام شاهدت فيها الأهوال ما لم يشهده أحد وبعد رحلة مضنية لمحت علم غريب يرفرف على البعد ، علم يوغندا ، إذا فقد عبرت حدود بلادي المصابة بالخبال، هناك خيل لي أني سمعتها مرة أخرى قادمة مع خيوط أشعة الشمس الغاربة ، إنها صرخة ميتا !! .
سرت في جسدي المنهك القشعريرة ، أطلقت زفرة حارة وانطلقت نحو العلم الذي كان يرفرف من بعيد .



قطار الشمال الأخير
استقلت ميري على العشب عارية تماماً تتأمل القمر الشاحب يطل خلف نتف السحب الهاربة، كان خرير الماء في النهر الممزوج بهدير الأشجار وصرخات وعواء الوحوش يشكل سيموفنية الغابة الموحشة، سمعت وقع خطوات ثقيلة متعثر تدوس على الأعشاب الجافة، أجفلت لحظة واستدارت إلى جانبها تتأمل القادم الجديد، والتقت عيناها بعينيه، ذلك القادم الخجول، كان جندي في ريعان شبابه أبيض اللون أزرق العينين، شهقت ميري وهي تتأمل الرجل الذي وقف في ارتباك، عدل عن رأيه في التبول، لكن كان وقف الانسحاب قد فات، فقد استقلت حورية الغابة على العشب مرة أخرى وباعدت بين ساقيها وأغمضت عينيها في استسلام.. اقتربت الخطوات المترددة وبدأت لعبة الطبيعة بكل عنفوانها، كانت تجربتهما الأولى على ما يبدو، ومضت اللحظات، دون صفير حاد في الجوار يؤذن للفصيل العسكري المدجج بالسلاح بالانسحاب من القرية الخالية من المتمردين إلا قليل من النسوة والأطفال والرجال المسنين ركض الجندي على عجل وارتدى ملابسه، حمل بندقيته، وأخذ يعدو نحو القرية تاركاً المرأة في حالة من الغيبوبة الحالمة، عند الفجر استيقظت ميري وتلفت حولها تبحث عن بقايا الحلم اللذيذ.. هل يعقل أنها كانت تنام مع رجل القمر ؟ . ذلك الرجل الجميل الذي يتجول في الغابات ليلاً ويخصب العذارى فيلدن بنات جميلات، يكن مصدر خير وبركة لأهلن، البنت الجميلة تعني المهر الكثير كعادة أهل جنوب السودان، قد جاء رجل القمر بملابس جندي من جنود الحكومة لا يهم أنه نفسه رجل القمر كما كانت تردد نساء القرية المجربات.. نهضت ميري وجمت الملابس التي جاءت بها تغسلها في النهر، حانت منها التفاته إلى شيء يتلامع على الأرض جوارها، كانت سلسلة ذهبية معلق عليها قلادة منقوش عليها اسم باللغة العربية ومفتاح، وحملتها ميري بلهفة وعلقتها على جيدها الأسمر الجميل ومشت تترنح في نشوة صوب القرية.. حدث ذلك في منتصف الخمسينات من هذا القرن!.
* * *
عندما ولدت ميري ابنتها يار، شهق الجميع من الدهشة، كانت طفلة خلاسية غاية في الجمال أخذت هذه الطفلة تكبر وتترعرع بين أترابها وجمالها يزيد ويتوهج ويلتف حتى غدت مزيجاً رائعاً بين الكاكاو وذات قامة ممشوقة كأشجار الأبنوس، وعند بلوغها الخامسة عشرة ذاع صيتها بكل مكان، يار الجميلة بنت رجل القمر، تقاطرت وفود الخطاب، وارتفع مهرها حتى صار ألف بقرة وجدها فرنسيس يساوم في اقتدار وأمها ميري تنظر إليها في فخر واعزاز.. تزوجها أخيراً عثمان دينق ابن رث (2) قبيلة المنداري، تزوجت يار من عثمان وعاشا سعيدين في العهد الذهبي للسودان في السبعينات وبعد أن أطفأ مؤتمر أديس أبابا* نار الحرب الأهلية في البلاد.. ولدت يار ابنها الأول بيتر وفي منتصف السبعينات ولدت بنتها فاطمة وتريز.. ومضى الزمان هكذا ليطوي الصفحات المشرقة وينفجر الوضع مرة أخرى في الجنوب بشكل أكثر قسوة نتيجة لعبث السياسيين القذرين.. اشتعلت النار مرة أخرى في منتصف الثمانينات وبدأت حركة نزوح تجري للأهالي في كل الاتجاهات ولأول مرة يتنازع عثمان مع زوجته يار، فقد اختارت يار الاتجاه شمالاً واختار عثمان الاتجاه جنوباً وقد حسما الصراع بينهما، أخذت يار ابنها بيتر ورحلت صوب الشمال إلى مدينة أويل حيث خط السكة الحديد والقطار الذي يقل الناس شمالاً، أما المنكود عثمان اختار السفر جنوباً والعبور إلى الحدود اليوغندية مع ابنتيه للأسف قتله المتمردون هو وابنتيه وعلقوهم على الأشجار وقد شاهد ذلك بعض النازحين شمالاً وأخبروا يار بموت زوجها وابنتيه، بكت يار بكاء مراً في محطة القطار في أويل وكان بيتر المسكين ينظر إليها في إشفاق.. ووضعت وجهة بين كفيها ونظرت إليه بعينيها الواسعتين الدامعتين ورددت في إصرار.
- بيتر !! لا تكن غبياً كأبيك عليك دائماً بالقطار الذي يتجه شمالاً.
- نعم يا أمي سأفعل ذلك دائماً ما حييت.
تحرك القطار من محطة أويل ينؤ بحملة النازحين، كأن الحظ أراد أن يبتسم ليارو ابنها مرة أخرى، شاهدهما سائق القطار محمد عثمان ومعاونه سيد أحمد يجلسان وسط أكوام النازحين.. يبدو أنه نداء الدم، تفضل عليهما الرجل الطيب الركوب في العربة الخاصة بالسائقين في مقدمة القطار بينما ركب جميع النازحين من مختلف القبائل والأعراق في العربات الخلفية للقطار.. ظل القطار ينهب الأرض في رحلته الطويلة وبعد مسيرة مضنية وصل القطار منطقة القردود (3)، هناك أطلت مأساة بشعة بوجهها القبيح كان أحد المتنفذين الحزبيين يشعل الفتن والنعرات القبلية بين قبائل الغرب والجنوب ونتج عن ذلك أن قام المستوطنون بإحراق عربات القطار التي تعج بالنازحين.. جاهد السائق محمد عثمان في إنقاذ ما يمكن إنقاذه بفصل العربات المحترقة والانطلاق بالقطار.. نجت يار وابنها من المجزرة بحكم تواجدهما في مقدمة رحلته، أخذت تظهر حواضر الوسط والشمال أمام يار وابنها كالأحلام.. أخيراً جاءت الخرطوم.
* * *
في معسكر البانيتو (4) الذي يقع جنوب محطة القطار في مدينة الخرطوم بحري حيث يفصل شريط القطار بين الجنة والنار، الجنة التي تمثلها الأحياء الفارهة الصافية وشمبات، والجحيم الذي يمثله معسكر النازحين المصنوع من الصفيح والخيش والجولات استقرت مع ابنها بيتر، كانت تقوم بزيارات يومية للأحياء الفاخرة، تغسل الملابس وتنظف البيوت وتعود عند الغروب منهكة تعد طعام الغداء من الطعام الذي تجود به ربات البيوت الطيبات في تلك الدور الجملية وتجلس في انتظار عودة ابنها من مدارس رمبيك (5).. وهكذا كانت حياة يار وبيتر، كما حكاها بيتر الرجل الغامض الذي التقاه يجلس بمقعد في شارع النيل الظليل في الربع الأخير من الثمانينات.. وجده بيتر يحمل كراسة وقلم يكتب شيء ما.. لعلها أقوال شاهد إثبات (9).
* * *
إن السكن في معسكرات النازحين التي لا تعيرها الحكومة التفاتاً شكل مأساة حقيقة ليار الجملية وابنها المسكين.. يتهجم الرجال عليها ليلاً يقضوا وطرهم ويتركونها منهكة ولا تجد من يحميها منهم وتعاني أيضاً من التحرشات عندما تعمل في تلك القصور الفخمة في الجوار.. بدأ الهزل يدب في جسدها وجمالها يذبل تدريجياً وفي زمهرير شتاء يناير البارد كانت تسعل وتبصق دماً، حز ذلك في نفس ابنها، ترك المدرسة ومضى يغسل السيارات في شوارع الخرطوم، جلست يار في البيت تعاني المرض العضال، ذبل كل شيء فيها، فقط بقيت عيناها الجميلتان تنظر بهما إلى ابنها الذي يعود عند الغروب محملاً بالطعام والدواء، في ذلك اليوم غسل بيتر سيارة الطبيب عصام وأخبره بقصة أمه المريضة.. طلب الطبيب منه أن يحضر أمه عنده في المستوصف وأعطاه كرت الزيارة، فرح بيتر بالكرت الذي سيضع حد لآلام أمه، كان الطبيب فلسطيني يعمل في مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني (6) جوار حديقة القرشي في مدينة الخرطوم.
* * *
نزل بيتر من الحافلة التي أقلته قرب المعسكر.. كان الوقت عصراً، عاد مبكراً اليوم ليزف لأمه الخبر السعيد.. في المعسكر كان ينتظره شيء آخر!! أكوام من النسوة الثاكلات أمام كوخهم.. إذاً رحلت أمه يار دون أن تودعه طفح الدمع في عينيه مدراراً، شاهده الأب لوقا وبعض الأصدقاء الطيبين ينسحب القهقري، ناداه الرجل واحتضنه وحمل الجميع الجثمان إلى الكنيسة المصنوعة من الأخشاب عند الطرف الشرقي من المعسكر، هناك تمت مراسم الدفن، وجلس بيتر يبكي عند قبرها كثيراً، اقتربت الأخت ما جوري وأعطته آخر وصايا أمه السلسلة الذهبية والقلادة والمفتاح وسوار ذهب في خرقة من القطيفة القذرة، أخذ بيتر أشياء أمه الراحلة وشكر الأخت ما جوري وأنسحب من المعسكر مع أشعة الشمس الغاربة وقف عند شريط القطار، كان القطار يتهادى خارجاً من المحطة في طريقه إلى الشمال في منظر اعتاده بيتر مراراً.. ولكنه اليوم يختلف تماماً، اعتملت في نفسه الجريحة أفكار سوداء، " هل يلقي نفسه أمام القطار ؟! أم يستقله ويرحل به شمالاً".. جاءه صوتها الحالم مع نسمات الغروب "بيتر لا تكن غبياً كأبيك.. عليك دائماً بالقطار الذي يتجه شمالاً". ترددت أصداء كلماتها في نفسه مراراً والقطار يقترب ويتخطاه مضاعفاً سرعته، ركض بيتر خلف القطار وتعلق بآخر عرباته وصعد على سطح القطار المكتظ بأفواج المسافرين.
* * *
على سطح القطار، قطار الشمال المتجه إلى حلفا كانت الدنيا تتبدل وتتغير أمام عيني بيتر الحزين، بدأت تظهر الصحاري والرمال، أشجار النخيل.. إنه السودان ذلك البلد العجيب. "كيف يتباين بهذه الصورة؟!" غابات دائمة الخضرة في الجنوب صحراء قاحلة في الشمال وتوالت حواضر الشمال كأنما كان يقلب البوم صور، مدينة شندي المزدهرة بالتجارة مدينة عطبرة التي تسبح في الأضواء وهي أشبه بمدينة بريطانية في قلب أفريقيا، مدينة أبو حمد النقطة التي يعبر منها القطار إلى الصحراء الموحشة عبر محطات خلوية إلى مدينة وادي حلفا عند بحيرة السد العالي في الحدود السودانية المصرية.. كان هذا التباين في المدن التي يمر بها القطار مثار دهشة بيتر.. لهجات كثيرة يتحدث بها الناس لا يعرفها، لغة عربية مكسرة لتتداول بين الغرباء، تمكن بيتر من صنع صداقات عابرة مع عدد من المسافرين، طلاب يذهبون للدراسة في مصر جنود يذهبون إلى زويهم، تجار من دارفور يخبرونه عن النهب المسلح في غرب السودان وتداعياته الأمنية، نساء مسنات يشركنه في زادهن.. إن القطار عبارة عن مدينة متحركة، تتشابك في العلاقات الإنسانية وتتعقد يتبدل الناس تباعاً، إنه شيء أشبه بالحياة.. تتخذ صديقاً فينزل ويودعك في المحطات التالية، هكذا رحيل دائم، "كما فعلت أمه يار!!" بعد رحلة مضنية ومثيرة وصل بيتر إلى مدينة حلفا ليلاً وكأنما ناداه الحنين إلى الغابة اتجه نحو المزارع على ضفة النيل هناك تعرى خلع ملابسه وقفز إلى النيل سابحاً إلى جزيرة وسط النيل خرج نم الماء وتمدد على رمال الجزيرة .. شعر بالجوع.. تفلت حوله.. إنه ابن الغابة فقد اعتادت الغابة إطعامه في الجنوب.. شاهد ثمار (10) حمراء ملونة صغيرة لنبات بري ينتشر حوله، أخذ يقطفها ويأكلها كان لها طعم لاذع لا ينسجم مع منظرها الجميل ظل يأكل بنهم وفجأة شعر بخدر يسري في جسده وأنفاسه تتلاحق "تباً لهذه الثمار" قذف بها بعيداً ثم شهق وسقط على الأرض ينتفض من الحمى وراح في غيبوبة عميقة، كان آخر ما شاهده طيف رجل يقترب من البعيد ..
* * *
فتح عيناه ببطء شديد وشاهد السلسلة الذهبية تتأرجح أمام ناظره ووجه طيب لرجل ذو لحية بيضاء مصقولة وعينان زرقاوان ينظران إليه بحب عميق وسمع بيتر صوت الرجل يتحدث بلهجة قبيلته المحلية في الجنوب لهجة الدينكا.
- من أنت ؟! ومن أين حصلت على هذه القلادة ؟؟
تحدث بيتر بصعوبة ولكن كان يبدو عليه الارتياح.
- اسمي بيتر عثمان دينق وهذه القلادة أعطتني لها أمي يار وقد ورثتها عن أمها ميري التي أهداها لها رجل القمر (8).
- رجل القمر !!
- أخبرتني عنه الجده ميري بأنه رجل جاءها بملابس الجنود فنام معها وانجبت منه أمي يار.
شعر بيتر بأن هناك شيء كالأمطار يتساقط على وجهه، إنها دموع الرجل الجليل الذي ردد في لهفة.
- أين أمك يار ؟!
- ماتت في معسكر البانيتو للنازحين بالخرطوم بحري… بالدرن.
انفض الرجل على بيتر يحتضنه ويبكي بحرقه.
- آه يا با ابنتي يار .. يا آآ آر..
أخذ بيتر يجتر بالمأساة للرجل الطيب الذي جلس جواره في سرير المستشفى بعد أن استعاد وعيه وبدأ يتبين الوجوه الطيبة الملتفة حول سريره ينظرون إليه في إشفاق ويتحدثون بلغة لا يفهمها ولكنها ليست العربية..
أردف الرجل:
- ماذا كانت تعمل يار ؟
- تغسل الملابس وأشياء أخرى الـ …
- ممممم .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
- ما كان يحزنني ذلك لأنها كانت تفعله من أجلي ..
- نعم يا ابني أمك كانت عظيمة، يرحمها الله .. إنها الحرب البشعة !! بالنسبة لك يا ولدي انتهت الحرب ستعيش معنا هنا وتدرس في المدرسة عندما تخرج من المستشفى.
تنفس بيتر الصعداء وأغمض عينيه ونام مرة أخرى في سكينة يشوبها الارتياح..
* * *
في الصباح الباكر، كان بيتر يسير مع أقربائه الجدد في طريقه إلى المدرسة يتحدثون بلهجتهم العجيبة التي لا تشبه لهجته وأيضاً ليست بالعربية، يبدو عليهم أنهم فرحون بوجوده بينهم أخذ الجد عبدالجليل يشرح له معالم المدينة الوادعة، حلفا القديمة.. كان ينظر إلى أشجار النخيل الباسقة ويقارنها بغابات التيك والمهوقني في الجنوب، ينظر إلى الأرض الصلعاء والرمال من حوله ولا يجد فيها شبه لإعشاب السافنا الغزيرة، الهدوء العام الذي يسود المدينة إلا من ضجيج السيارات الذي يذكره الخرطوم أو هدير البواخر تمخر عباب البحيرة، بحيرة ناصر، تقل المسافرين إلى مصر شمالاً.. لا صدى أبداً لطلقات الرصاص أو الإنفجارات والقرى المحترقة التي علقت بذاكرته منذ الطفولة البعيدة "هنا في الشمال لا حزن لا دمع سائل ولا ليل ولا هم طائل " (11).. كأنما قرأ الجد عبدالجليل أفكاره انبرى له قائلاً:
- نعم بيتر.. لا توجد حرب هنا.. ولكن هناك الأسوأ الفيضانات والسيول المدمرة التي تقضي على الحرث والنسل.
أومأ بيتر موافقاً.
- هو كذلك يا جدي، لكل مكان في بلادنا الحبيبة آفاته الطبيعية ولكن الحرب من صنع الإنسان!.
- نعم صدقت يا بني .. باللعار !!!
عند محطة القطار شاهد بيتر بعين دامعة القطار قادم يتلوى من بعيد، تنهد في أسى وردد في نفسه الجريحة "ليت الموت أمهل أمي يار.. حتى تستقل معي قطار الشمال الأخير".
هوامش:
* الحرب الأهلية في جنوب السودان.
(2) رث: ملك أو سلطان.
(3) أحداث القردود : فتنة أشعلها أحد نواب قبائل الجنوب وقبائل كردفان.
(4)معسكر البانتيو: اسم معسكر النازحين في الخرطوم بحري بانتيو في جنوب السودان.
(5) مدارس رامبيل: مدارس فتحت في الخرطوم لاستيعاب الطلاب النازحين من الجنوب، رمبيك مدينة في جنوب السودان.
(6) الهلال الأحمر الفلسطيني: كان موجود جوار الحديقة ذلك الزمان.
(7) اتفاقية أديس أبابا 3 مارس 1971م أوقفت نزيف الحرب في الجنوب.
(8) رجل القمر : أسطورة من تأليف الكاتب.
(9) أقوال شاهد أتبات: ديوان شعر للفيتوري.
(10) نبات السيكران: نبات بري سام يكثر في الجذر على النيل وضفافه.
(11) أغنية صابرين للمطرب الراحل / مصطفى سيد أحمد.

شوارع الخرطوم
- كانوا سبعة أو ثمانية .. لا أدري ولكنهم كانوا سبب تعاستي.
قال صديقي حمدان ذلك بمرارة شديدة وقد اجتاح وجهه ألم عميق، نظرت إليه في اشفاق وقد تصبب جسده عرقاً وسرح بخياله بعيداً إلى نقاط مظلمة في الماضي ثم أردف.
- عثمان.. اعتقد أنك الوحيد الذي سيفهمني.
- نعم يا صديقي أنا لم أحضر هنا لأزجاء الفراغ.
كانت تجمعنا أن وحمدان وبعض الأصدقاء علاقات متينة منذ أيام الدراسة، كنا أبناء جيل واحد، الآن وقد شارفنا العقد الخامس، وتفرقت بنا سبل الحياة، صرت أنا مدير مدرسة وكان حمدان مقدم في الشرطة، هزني ما قرأته عنه في الصحف والظروف الغامضة التي أحاطت بتركه العمل، رغم علمي أنه من أكثر رجال الشرطة استقامة، تناولته الصحف المأجورة في الصحف الحزبية وغير الحزبية ونهشت في عظمه حتى أصيب بانهيار عصبي، ظل يعاني منه حتى بعد خروجه من المصحة وبقائه في منزله الكائن بالشعبية بالخرطوم بحرى..
انقطعت عني أخباره حقبة من الزمن كنت معاراً في سلطنة عمان وفور عودتي إلى السودان واجهتني تلك القصة "استقالة المقدم حمدان" التي لا زال يكتنفها الغموض حتى الآن، حمدان الذي لا يثق في أحد غيري اعتكف في منزله وطلق زوجته عواطف وأخذت معها الأطفال الأربعة، وأن أعرف يقيناً مدى حب حمدان لزوجته وعياله، إن حمدان كتاب مفتوح بالنسبة لي منذ أيام الدراسة يتقمص شخصية رجل الشرطة الأمين، انخرط في صفوف الشرطة منذ سنين بعيدة وجاب أرض السودان طولاً وعرضاً وترقى في الدرجات حتى وصل رتبة مقدم.. ماضية معطر بالأمجاد وبالنزاهة، لكن في هذا الزمن الأغبر تنطمس الحقائق، طافت بذهني تلك الذكريات وأنا احدق في وجه صديقي الممتقع وأصابعه المرتعشة، ابتسمت له مشجعاً- يبدو أن حضوري أشاع في نفسه الطيبة والحبور وباءت عيناه تستقران بعد أن كان يتلفت كالمذعور .. وأردف:
- كما قلت لك كانوا سبعة .. لكني لا أعرفهم كلهم .. فقط آدم.
- من هؤلاء يا صديقي ؟‍‍‍‍‍‍
- أنت أيضاً لا تعرفهم، لك العذر غبت فترة طويلة عن السودان.
- من تعني بهؤلاء؟
تراجع حمدان على مسند الكرسي الوثير في صالون منزله الهادئ وأغمض عينيه اللتان كانت تتلامع فيهما دموع قديمة لم تجف، بدأ يعود بذاكرته إلى الماضي.. كان صوته ينساب رتيباً ممزوجاً بدقات بندول الساعة الجدارية وكأنما الزمان عاد بنا إلى الوراء إلى جذور المشكلة الحقيقية التي يعرفها حمدان وحده.. ظل سرده متواصلاً كان يتلو عريضة دفاع أمام محكمة عادلة..
* * *
- بحكم عملنا بالشرطة كنا نعرفهم .. أحياناً تجدهم يتحركون جماعات وأفراد يهيمون كالطيور في شوارع الخرطوم.. دخلوا الدنيا بدون شهادة ميلاد، في الخريف عندما تهطل الأمطار الغزيرة يختبئون في الخرائب وفي الشتاء القارس لا يجدون غير المجاري القديمة وفي الصيف يجوسون تحت الشمس الحارقة، يمارسون أعمالً وضيعة لا تعترف بها الدولة. ماسحوا أحذية. غسيل سيارات نشالون ولصوص.. قتلة ومع كل هذا كان لهم عالمهم المدهش، ذلك العالم الغريب الذي قادتني إليه الظروف القاهرة وطبيعة العمل فولجت فيه ولكن بزاوية مختلفة عن تلك التي تعرض علينا في التعامل مع هؤلاء.. أنت تعرف جيداً أنني أعمل في الشرطة منذ أيام الانجليز وكنا نعرف شعار الشرطة في خدمة الشعب، كل الشعب وإن الشرطة هي يد العدالة النظيفة.. هذا ما تعودنا عليه خلال عملنا في السلك العسكري.. لكن هذه الأيام التبست الأمور وبدأت القاذورات تحيط بنا في كل مكان.. سكت حمدان برهة ثم أخرج سيجارة واشعلها مع علمي السابق أنه لا يدخن ومن خلال سحب الدخان انتظرته أن يستأنف وقد بدأت تروقني القصة.
- هل تعرف وزير التجارة السابق.. والحادث الذي جرى لابنه المدلل نادر؟
- نعم قرأت في الصحف "قتل نادر بن الوزير في ظروف غامضة وجد مطعوناً بمدية في إحدى الخرائب وقد قام القاتل بتجريده من ملابسه ونقوده وتركه جوار سيارته المرسيدين وهرب.
- نعم .. ولكن هناك شيء أغفلته الصحف عمداً، كان هناك مخدرات في السيارة وأن هذا الولد المدلل كان مدمناً وقد ساقه حتفه إلى تلك المنطقة الخطرة التي لا يأمها انسان سوى…
- هل تعرفتم على القاتل؟
تنهد حمدان وقد اكتسا وجهه بالألم الممض لذكرى تلك الليلة المزعجة.
- نعم قتله الزعيم.
نظرت إلى صديق بدهشة عندما نطق هذا الاسم بفخر واعتزاز ثم اردف
- أنت لا تعرف الزعيم أيضاً‍‍
أغمض عينيه مرة أخرى وأشعل سيجارة مرة أخرى وبدأ ينفث الدخان في عصبية وواصل حديثه المدهش الممزوج بدقات بندول الساعة.
- زعيم امبراطورية المتشردين.. هل تصدق أن ذلك العالم السفلي كانت له نظمه وقوانينه وقيمة أيضاً، كما قلت لك أن هذه الجريمة شغلت الرأي العام ووضعتنا نحن رجال الشرطة في موقف حرج، كان لا بد من الحصول على القاتل وبأي ثمن، ظل الوزير الثائر يأتي إلينا كل يوم في المخفر وأحياناً برفقته وزير الداخلية نفسه فهو يمت له بصلة قرابة، الأمر الذي اضطر بعض الزملاء وبتحريض من وزير الداخلية نفسه أن نحاصر هؤلاء، ليتك تعلم الوحشية التي يتم بها اعتقال هؤلاء التعساء ومطاردتهم في الشوارع وضربهم بالعصى الغليظة أمام المواطنين، كانوا يفرون كالفئران المذعورة.. هذا الشيء الذي يسمونه "الكشة"* وضرب المتشردين بعصى كأذناب البقر لا أطيقه، كنا نعتقلهم في جماعات.. إذ لابد من العثور على القاتل، لا بد من إرضاء الحكومة وأن تقوم الشرطة بواجبها على أكمل وجه، ظل الضرب يتواصل داخل المخفر ولا أحد يقر بالقاتل حتى جاء ذلك اليوم ! !وللصدفة المحضة اعتقلنا مجموعة آدم. كانوا سبعة، أحدهم يرتدي نفس السترة الفارهة للمجني عليه وتم التعرف عليها بواسطة والد القتيل الذي انهال صفعاً وركلاً على الغلام. كان المتشرد يصرخ أنه بريء وأنه اشترى هذه السترة من شخص ما، كنت في قرارة نفسي وبحدس الشرطي موقن ببراءة هذا الغلام. رفض الجميع الإدلاء بأي معلومات عن القاتل الحقيقي، ظلوا ينظرون إلى بعضهم البعض في تحدي، لا أحد يعترف وتم اطلاق سراح المجموعة عدا المشبوه الذي أودع الزنزانة، وامتلأت الصحف تشيد بالدور العظيم لرجال الشرطة وحفاظهم على الأمن، ولكن هناك جرائم أخرى تغفلها الصحف عمداً. مثل الشاحنات المحملة بالسكر التي احتجزتها مجموعتنا في كمين في ضواحي الخرطوم. تنهد حمدان المغمض وقد اكتسى وجهه بالقرف والامتعاض.
- تمكن طوف أمن يقع تحت دائرة اختصاصي من احتجاز أربعة شاحنات محملة بالسكر بدون أوراق ثبوتيه، وتم إحضارها إلى فناء المخفر، وضعت هذه القضية تحت إشرافي المباشر وكان هذا نصف الحقيقة التي لم تظهر وتجسد مأساتي.
نهض حمدان وأنا أحملق فيه في دهشة واتجه نحو براد الماء وتناول كوباً وشرب كمية كبيرة من الماء، كأنه قادم من صحراء، ثم عاد وجلس على كرسيه واستند في تخاذل وهو يفتح علبة السجائر بإصابعه المرتعشة وأردف:-
- طبعاً لا بد أنك أصبت بالدهشة لإنتقالي إلى قضية أخرى ليس لها علاقة بالقضية الأولى، دعنى أحدثك أكثر.. الحديث ذو شجون.. سأخبرك عن آدم الذي قلب حياتي رأساً على عقب.
ظل حمدان يحكي في حزن بالغ، أنه كان يوماً يجلس على كرسي أمام المنزل مع أحد الزملاء الذي حضر بصدد قضية الشاحنات، أرسلته جهة خفية، اقترب منه أحد المتشردين مع عدة غسيل سيارات، كانت السيارة متسخة ولم يجد حمدان مانع من غسلها. كان المتشرد يغسل السيارة بهمة ونشاط غير آبه للحديث الخطير الذي يدور بين حمدان وزميله الضعيف أخلاقياً، لم يتنازل حمدان قط عن قراره بمصادر الشاحنات بما فيها. الشيء الذي أثار غضب زميله فنهض وانصرف غاضباً وهو يتوعد حمدان بالويل والثبور.. انتهى المتشرد من غسل السيارة واقترب من حمدان، كان حمدان غير مكترث يعبث في جيوبه باحثاً عن ورقة من فئة الخمس جنيهات يناولها المتشرد، كاد يصعق عندما خاطبه المتشرد باحترام بالغ.
- سيادة المقدم حمدان.
نظر حمدان في دهشة عميقة إلى المتشرد الذي يعرفه. لكن المتشرد لم يسعفه وأردف:
- أنت لا تعرفني.. لكني أعرفك جيداً، أنا أحد الذين تم القبض عليهم في حادثة نادر ابن الوزير.
نظر حمدان إلى المتشرد الذي أمامه، كان شامخاً يكاد يصل عنان السماء، أدرك حمدان بحسة البوليسي الناجح أن هذا الغلام يريد أن يخبره بسر خطير.
ابتسم له حمدان في ود وطلب منه الجلوس، إلا أن هذا الغلام تمسك بأن يظل واقفاً واردف:
إن الشخص الذي اعتقلوه بريء .. القاتل الحقيقي هو الزعيم وأنا مستعد لأن أقودك إلى مقره إن كنت ترغب في ذلك.
حدق حمدان في المتشرد بدهشة، كيف تعترف الآن بالقاتل الحقيقي وفي المخفر رغم العذاب الشديد لم يعترف؟ تابع المتشرد حديثه الواثق.
-إني أعرف سبب دهشتك، إني أعترف الأن بالقاتل الحقيقي لأن هناك بريء في السجن، اعترف لك لأدفع العذاب عن إخواني، إذا أرادت الذهاب الآن إلى الزعيم دعني أقودك بهذه السيارة.
كان حمدان من الرجال المثاليين ويحب المبادئ كثيراً فلم يخف إعجابه بآدم الشجاع ونهض وركبا معاً السيارة التي انطلقت تشق شوارع الخرطوم الخالية وقد أرخى الليل سدوله.
في الطريق أخير آدم حمدان بكل أسرار حياة المتشردين، إنها امبراطورية عظيمة.. كانت قصه أدم من النازحين، حضروا إلى ضواحي أم درمان أيام الجفاف والتصحر الذي ضرب غرب السودان في بداية الثمانينات، كانت الحياة في معسكرات الجوع بين ذلك الحطام البشري لا تطاق، خرج آدم ورفاقه الستة ودخلوا مدينة الخرطوم من أطرافها، استقبلتهم الخرطوم السفلى والعالم المظلم بالركل والمعارك التي لا تنتهي، فأنت لا تدخل امبراطورية المتشردين إذا لم تكن مقاتلاً شرساً، تحت غابات الإسمنت كانت تقع معارك عنيفة الزعيم هو الأقوى، يخيف الجميع، حتى آدم فور وصوله نال منه علقة لم ينساها أبداً، تلك المعركة كانت بطاقة الدخول إلى عالم المتشردين، الزعيم قوي مفتول العضلات أحال وجه آدم إلى كتلة من الدماء وبعد اعترف به الجميع وبرفاقه الستة. ليست المعارك للنصر أو الهزيمة ولكنها وسيلة التعارف في ذلك العالم التعس. لم يكونوا مجرمين، فهم يمارسون المهن الوضيعة مثل مسح الأحذية وغسل السيارات إلا القتل فهو ليس من طباعهم، أما الزعيم كما حكى لآدم فكانت لدوافعه العدوانية أسباب كثيرة وترسبات وجذور من الماضي فهو يكره عربات المرسيدس والذين يركبونها، وقد حكى الزعيم لآدم عندما نصحه بتسليم نفسه للشرطة حتى تطلق سراح صديقهم المسكين جاكسون الذي اشترى تلك السترة اللعينة.. حكى له أنه عندما كان صغيراً كان يرقد مع أصدقائه على الرصيف في ساعة متأخرة من الليل، دهستهم سيارة مرسيدس كانت منطلقة باستهتار، تنبعث منها رائحة الخمر والضحكات الماجنة، مات الجميع ونجى الزعيم ومنذ ذلك اليوم بدأ الزعيم رحلته مع القتل، عرف آدم أن الزعيم قتل البنت هند أيضاً التي لم يعرف قاتلها حتى الآن ونهب كل ما تلبسه من مصاغ وأنه لن يسلم نفسه للشرطة، إذا أرادوا فليأتوا ليأخذوه عنوة.
* * *
عندما اقتربت العربة من الضاحية الخطرة في هوامش مدينة أم درمان نبه آدم حمدان بأن لا ينزل من السيارة فالزعيم مجرم خطير وقد لاح يترنح عند طرف الزقاق، عندما لمح الزعيم السيارة اتجه نحوها وقذفها بزجاجة الخمر التي كان يحملها، كان ثملاً، تراجع حمدان بالسيارة وانسحب بسرعة تشيعه لعنات الزعيم وسبابه الفاجر.. كانت بداية التعارف بين حمدان وآدم هي الطريق الذي قاده إلى النور، في اليوم التالي تمكنت الشرطة من حصار وكر الزعيم، لم يكن حمدان يتوقع أن خطورة الزعيم تصل إلى أنه يمتلك مدفع رشاش، كانت معركة شرسة استشهد فيها أحد أفراد القوة ومات الزعيم أيضاً. ماتت أشياء كثيرة داخل حمدان، عرف حمدان ذلك الكذب العاهر الذي يتمسح بثوب العدالة، إن المجرمين الحقيقيين الذين تسببوا في موت هذين الشخصين يسكنون القصور العالية ويرتدون الملابس النظيفة ويتحدثون الأحاديث الناعمة وأنهم في الشرطة ليسوا سوى أدوات لتلك النفوس المريضة توجههم إلى حيث لا توجد رحمة ولا توجد عدالة. إن سكان العالم السفلي هم بشر مثلنا تماماً، ملابسهم متسخة وممزقة، قلوبهم نظيفة بيضاء، مستعدين لكافة أنواع التضحية، يدخلون دون شهادة ميلاد ويغادرون دون شهادة وفاة إلى جنة الله وعدالته التي لا تظلم أحد …
دارت هذه الأفكار المضطربة في نفس حمدان وهو يرى جثتين إحداهما لرجل شرطة مات أثناء تأدية واجبة ومتشرد يبحث عن حقه في الحياة، وفي المخفر تم التعرف على بقية المسروقات والساعة الفخمة التي يرتديها الزعيم كانت ساعة القتيل نادر.. ظهر القاتل الحقيقي ولم تذكر الصحف ذلك.. وفي ذلك اليوم المشهود عندما ذهب حمدان إلى المخفر بعد فراغه من تسوية قضية نادر. طلب منهم أن يعطوه ملف قضية الشاحنات الأربع، لم يجد الملف، تم شطب القضية مع تسويات كثيرة تمت خلف ظهره، لأن الشحنة تخص وزير التجارة نفسه وبمعاونة وزير الداخلية تم ترتيب كل شيء، تباً لهم! شعر حمدان كأن جنجراً انغرس في ظهره، أي عدالة هذه التي يتحدث عنها هؤلاء هل هي أن تسحق كل هؤلاء المتشردين من أجل موت غلام ماجن يستحق الموت، يمارس والده أبشع أنواع الفساد، لم تكن الشرطة كذلك، كان حمدان يحدق في الملف الفارغ وقد اعتصره الألم عندما حضر الوزير إلى المخفر يحمل لفافة نقود، المكافأة الكبيرة لأفراد القوة الذين يشيعون الأمن في البلاد، لم يتمالك حمدان نفسه أخرج ورقة وسطر عليها استقالته وقذف النقود والاستقالة في وجه رئيسه وخرج.. عند بوابة المخفر ترامى إلى مسامعه صراخ جاكسون الذي كان لا يزال محتجزاً، كان رجلان من الشرطة يسحبانه من دال الدهليز التفت حمدان إليهم وأمر الجنود بإطلاق سراح المتشرد الذي اندفع نحو حمدان يصرخ بأنه بريء، كان حمدان يعرف ذلك وأنهم بصدد اطلاق صراحه الآن ربت على كتفه في ود أدهش جاكسون جعله يهذي كالمجنون وخرجا سويا إلى الشارع الذي كانت السيارة تدافع فيه، أمر حمدان الغلام بأن ينطلق فهو حر. لم يصدق المتشرد أذنيه فأخذ يعدو بعيداً خلف أسراب الحمام وعاد حمدان إلى البيت في غاية الإعياء.
* * *
نهض حمدان مرة أخرى واتجه نحو البراد، تناول كوباً من الماء وعاد يجلس من جديد ونظر إلى صديقه وأشعل سجارة مرة أخرى وأردف.
- لعلك تريد أن تعرف آخر فصول المأساة.. طلاقي من عواطف ..!
بأن على وجه صديقي المعاناة التي بذلها في سرد قصته الشيء الذي جعلني متردداً في تركه يتابع السرد أم يتوقف، ولكن فضلت أن يستمر.
- واصل إن كنت ترغب في ذلك.
- إني أشعر بالراحة عندما أخبرك بكل شيء.
- تماماً كما كنت تفعل في الماضي.
تنهد حمدان وطفحت الدموع في عينيه.
- كانت مشاكلي مع عواطف كثيرة ولكن مع ارتفاع الضغوط من وجهة الفساد والاحباط الذي يحيط بي من كل ناحية ومطالبه الكثيرة، فهي امرأة. وكل النساء يحملن بالثراء الفاحش والجاه حتى ولو كان على جثث الآخرين.. لم تفهمني عواطف اطلاقاً، رغم حبي العظيم لها وللأولاد كانت تنظر إلى الزملاء الذي يجللهم الثراء ونساءهم المكسيات بالحلي وتعيرني بالغباء، وإني لا أعرف من أين تأكل الكتف وأني الوحيد في هذا البلد الظالم أهله الذي لا يعرف مصالحه. أطلق حمدان زفرة طويلة وطافت الدموع بعينه فقاطعته.
- في هذا الزمن الكالح الإخلاص والأمانة تجلب العار لصاحبها.
- نعم لقد جللتني الصحف بالعار وحاكو عني القصص والأقاويل عن تعاطفي مع المتشرين فخسرت كل سيء، عواطف والأولاد والوظيفة.
إنهار حمدان باكياً، تركه عثمان يبكي، إن الدموع تغسل الأشجان عندما يبكي رجال الشرطة الذين يظن الناس أنهم قساة غلاظ القلوب فإن ذلك ينبيء بخراب عظيم، ربت عثمان على كتف صديقه مواسياً.
- خسرت كل شيء فعلاً، ولكنك ربحت نفسك، قال المسيح عليه السلام "ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم وخسر نفسه".
رفع حمدان رأسه ونظر إلى صديقه، كانت هناك بارقة أمل كبيرة تشع من عينيه وبدأت أنفاسه تهدأ إن الحديث عن المشاكل والهموم يذهبها ويزيلها خاصة عندما يكون الحديث مع شخص عزيز، ردد حمدان:- .. هل ترى ذلك؟
- نعم حتماً ستعود عواطف والأولاد المسألة مسألة زمن: أما الوظيفة لدى صديق له شركة خاصة سأزكيك لديه.
نهض عثمان مستأذناً صديقه، خرج سوياً إلى الشارع، كان هناك شاب أنيق يقف جوار سيارة حمدان. أشار حمدان إلى الشاب أن يقوم بتوصيل صديقه إلى البيت كان ذلك الشاب آدم !!
* * *
انطلقت السيارة تشق شوارع الخرطوم ومن نافذة العربة نظر عثمان إلى هؤلاء الذين ذكرهم صديق حمدان، كانوا يتحركون في جماعات وأفراد يهيمون كالطيور، ينامون على الأعشاب في الحدائق العامة وفي الصالات أمام المتاجر الفخمة، دخلوا فقراء إلى الدنيا وكما دخلوا منها خرجوا.

معسكر اللاسلكي
كان أزيز الطائرة الخافت ينساب على أذنيه ويترك أصداء مؤلمة على ذهنه المشوش "اللعنة.. تباً لتلك الرسالة العجيبة ضاع كل شيء" أخبره عاطف شقيقه أن كل شيء ضاع جرفت السيول كل شيء. أخرج علبة الدواء وتناول الرسالة الحزينة. أغمض عينيه في استسلام ورجع بذاكرته إلى أيام الجامعة، عندما سئم الدراسة وشعر بعدم جدواها، تذكر أنه حضر ذلك اليوم ظهراً وجد كل الأسرة مجتمعة للغداء.. كان "أسد البراري" يقف جوار العربة الكارو يعتلف البرسيم الأخضر ويهز ذيله في جزل، ذلك الحصان المخلص الذي كان معهم منذ أن فتحت أعينهم للدنيا، كان ذلك يوم مشهود في حياة أحمد أعلن بكل إصرار أنه قرر ترك الجامعة، وقد عرض عليه رجل عقد عمل في السعودية، العقد بقيمة ألفي جنيه في ذلك الزمن الغابر، وافق والده على مضض، كان الحصول على مبلغ الفي جنيه تجربة شاقة "لأسد البراري" الذي عمل يوماً بأكمله من الصباح حتى منتصف الليل الشيء الذي أجهده وأصبح لا يستطيع الحراك لمدة ثلاثة أيام، أحزن ذلك أحمد، أخذه في اليوم الذي تقرر فيه سفره إلى النيل ليغسله كما كان يفعل في الماضي، اغتسلا معاً وعاد أسد البراري إلى البيت سعيداً منتشياً.
لا زال أزيز الطائرة يطن في أذنيه" إذا مات أسد البراري" كما ذكر أخوه في الرسالة "فتح أحمد عينيه في اعياء وقد غطتها الدموع، كان الحصان جزء من أسرتهم المتواضعة التي تسكن ضاحية الدروشاب جنوب الخرطوم بحري.
"جرفت السيول الصالون الذي بناه من كد قلبه، أخذ السيول والأمطار كل ما في المنزل وذهبت تاركة منزلهم أنقاض "كان أحمد قد عزم على أن يأتي ليتزوج هذا العام .. لكن هيهات!! كارثة أخرى حدثت " تزوج التوم العرة شقيق تاجر العملة الكبير من مريم فتاة أحلامه منذ الصغر " تمت تسوية غريبة مع أبيها الفقير الحاج عبدالله، ذكرها عاطف في رسالته الطويلة " تباً لتلك الرسالة العجيبة " إذاً فلتأخذ السيول والأمطار كل شيء لم يعد محتاجاً إلى الصالون أو الأثاث" …
" ماتت ابنة الجيران ميري بحمى المستنقعات" ، ميري بنت عم دانيال جارهم الطيب وصديق أبيه، من ابناء الجنوب ويعمل في الجيش وكيل عريف والد صديقاه شاول وصمويل. كانت تربط بين الأسرتين كل المناسبات الجميلة، عم دانيال من أعز أصدقاء والده، جمعتهم عشرة عمر طويلة أيام الحلفاء والحرب العالمية الثانية تحصلا على قطعة أرض بصعوبة وتمكنا من البناء سوياً واقتسما الدار … "هرب صمويل وانضم إلى المتمردين".. هذه الأخبار التي أرسلها عاطف كانت تدور ككوابيس مزعجة في ذهن أحمد المشوش والطائرة والسعودية العملاقة تقترب من مطار الخرطوم.. أعلنت المضيفة عن وصول الطائرة مطار الخرطوم الغارقة في البلل.. وهبطت في سلام.
* * *
استقل أحمد عربة أجرة تشق به طرقات الخرطوم الموحلة التي لا زالت تعاني من كارثة السيول والأمطار، كان أحمد ينظر إلى المنازل المدمرة والألم يعتصره، انطلقت السيارة إلى الضواحي، عند أطراف مدينة الخرطوم بحرى عند محطة اللاسلكي، كان المعسكر.. نظر أحمد إلى الخيام البيضاء المنتشرة تحت أبراج اللاسلكي الضخمة كأنها أسراب حمائم حطت على الأرض " إذاً هذا هو معسكر اللاسلكي، كما ذكره عاطف".. أوقف أحمد السيارة ونقد السائق أجره، واقترب يشق طرقات المعسكر، كان الكل ينظر إليه بفضول، الشباب الموفور الصحة الذي حضر إلى المعسكر، تعرف على الخيمة التي تقيم فيها أسرته عندما وجد عم دانيال ووالده يجلسان على كراسيهما المعتادة يستمعان إلى الراديو، كما كانا يفعلان في الماضي ويلعبان الدومينو أيضاً، كان اللقاء خافلاً بالدموع، وخرجت والدته من الخيمة وكل الجيران يحيون أحمد العائد من الخارج، حضر عاطف واحتضن شقيقه وأجلسه داخل الخيمة، استلقى أحمد الفرش وجلس عاطف الذي أدركه الهزال أمامه. نظر أحمد من الفرجة إلى عم دانيال الذي كان يستمع إلى إذاعة المتمردين في أسى وحزن بالغ..
- مسكين عم دانيال.
هز عاطف رأسه في أسى
- منذ أن اتضم ابناه إلى (أس. بي. أل. أي) وهو لا يكل ولا يمل الاستماع إلى إذاعتهم. نهض أحمد جالساً في دهشة.
- هل انظم إليهم شاول أيضاً ؟!
- نعم رغم أن تلك لم تكن قناعته وأنت تعرف أنه كان يدرس القانون يؤمن بالعدالة وعندما حضروا إلى المعسكر، كانت الإغاثة تأتي من الخارج من مختلف الدول فيتم صبغها بالأديان هنا ، لم يحتمل شاول ذلك واختفي كالمعتاد، عرفنا لاحقاً أنه مع المتمردين من خلال المذياع وكلما يأتي العصر يستمع عم دانيال إلى صوت ابنه شاول الذي يغطي البث الإنجليزي للإذاعة.
تنهد أحمد في أسى ثم ابتلع قرصاً آخر من علبة الدواء وشقيقه يحملق في دهشة وأردف أحمد في امتعاض.
- طريقه رديئة لاستقلال الأديان السماوية !!
ثم تنحى منحى آخر مواصلاً حديثه.
- كيف مات أسد البراري؟
كانت الدنيا شديدة المطر وقام والدنا وبمساعدة "أسد البراري" بنقل كل الأسر التي تقم في الجوار إلى شريط السكة الحديد، المكان الوحيد المرتفع الذي عصمنا من الماء في تلك الليلة وقد نفق من الإعياء، أحزن ذلك والدنا كثيراً، وقد قمنا بدفنه جوار هذا المعسكر لاحقاً .
دمعت عينا أحمد ونهض ينظر إلى أخيه في أسى.
- خذني إلى مكانه.
نهض عاطف وخرجا من باب الخيمة واتجها غرباً نحو الشمس الغاربة، جلسا هناك تحت ظل شجرة سلم وأشار عاطف إلى مكان مرتفع تعبث به الريح.
- هناك يرقد أسد البراري.
تنهد أحمد بحرقة وقد احمرت عيناه وبدأت يده ترتعش.
- كيف ماتت ميري ؟!
- أصيبت بحمى المستنقعات وعندما انتقلنا إلى شريط القطار أمرت الحكومة بالابتعاد عن المنطقة ورفض المنكوبين ذلك، حضر رجال الاحتياط المركزي واطلقوا علينا الغازات المسيلة للدموع وماتت ميري مختنقة بالغاز، اشتبك صمويل مع الجنود، ضربوه ضرباً مبرحاً ومنذ ذلك اليوم لم يره أحد، انضم إلى المتمردين وكان ذلك قبل اجلائنا بصورة نهائية إلى هذا المكان.
- اللعنة !! هرب كل أولاد عم دانيال وانضموا إلى المتمردين.
- أنا أجد لهم العذر في ذلك، هذه ديماجوجية الأحزاب وليس ديموقراطية.
نظر أحمد إلى أخيه في حنق، وهو يعرف أنه يساري وليس الوقت مناسباً الآن لإثارة جدل، إن داخله محطم تماماً، أخرج أحمد قرصاً آخر وابتلعه بأصابع مرتجفة.
- وضاعت مريم أيضاً؟ تزوجها التوم العاطل عن كل شيء، قريب تاجر العملة الثري.
- نعم كان ذلك.. وأنا أجد آسف لك.
- لا تأسف يا عزيز إنه زمن الكوليرا *
حاول أحمد أن يخرج قرصاً آخر، نظر إليه عاطف في امتعاض ممزوج بالحنق وصاح فيه بحدة.
- انتبه !! ما هذه الأقراص اللعينة التي تناولتها وتتناولها كل لحظة منذ حضورك.
- دعك منها .. اتركني وشأني.
نهض عاطف وانقض على شقيقه يحاول انتزاع علبة الدواء منه، تشبث أحمد بالعلبة وأفرغ الأقراص كلها في قبضته، كانت المعركة غير متكافئة بين أحمد الموفور الصحة القادم من السعودية وعاطف الهزيل المنهك بحمى المستنقعات، التف كالثعبان على شقيقه يمنعه من بلع الأقراص دفع أحمد شقيقه بعيداً وابتلع كل الأقراص انقض عاطف وهو يصرخ صراخاً هستيرياً على جسد أخيه الذي كان يختلج بشده وخيوط رفيعة من الدم تنساب من أنفه وفمه.
تجمع أهالي المعسكر من كل حدب وصوب، ينظرون في فضول حزين إلى الزائر الغريب الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة وشقيقه جالس جواره ينتحب بحرقة.. سكن جسد أحمد أخيراً نهض عاطف واطلق صرخة دواية رددت صداها جنبات المعسكر.. انقض الأهالي الطيبون.. أهالي الدروشاب عرب، نوبه، مسلمين، مسيحيين بسطاء كالثوب الأبيض كالخيام البيضاء التي تغطي الأرض جوار محطة اللاسلكي، وأسدل الستار على حكاية الزائر الغريب الذي حضر من السعودية مات في السودان في معسكر اللاسلكي.


الطاووس
قد ينتقل الإنسان في كفاحه من أجل البقاء في مهن مختلفة تتفاوت هذه المهن بين ما يحتاج لمجهود عضلي وأخرى تحتاج لمجهود عقلي أو كليهما . هناك مهن تقود الإنسان للتعامل مع الآلات الصماء الميتة إلا من الضجيج المنتظم الذي تصدره هذه الآلات في المصانع والمعامل .. مهن أخرى تتعامل مع الجمهور .. هذا النوع الأخير الذي يتعامل مع الكائنات الحية ..مع أسوأها على الإطلاق .. الإنسان !! هو الذي يستهويني تماماً .. لماذا ؟ لأني منذ الصغر شغوف بتعرية الإنسان من الداخل والتعمق في التحليل السلوكي وغيره .. هذه الهواية القذرة جعلتني عديم الأصدقاء إلا من القليل منهم الذين أحبهم كثيراً رغم انتقاداتهم المرة لي واتهامهم لي بسوء الأدب مع الناس الذين يكونون في نظرهم محترمين وفي نظري غير جديرين بالاحترام ، نسوق إليكم القصة التالية كشاهد على ذلك .. عملت يوماً في أواخر الثمانينات في وظيفة مؤقتة بمكتب القبول بالخرطوم .. هذا المكتب يقوم بتنسيق وتوزيع كافة الطلاب الناجحين من مختف من مختلف مدارس السودان إلى الجامعات والمعاهد العليا في الداخل والخارج .. كان عملي مساعدة لأولياء امور الطلاب بملئ استمارة القبول بالطريقة الصحيحة ، كنت مختص مدارس الكمبوني * فأضحى هذا العمل مفتاح المرور للتعرف والتعامل مع الأوساط " الهاي فاي " .. إذ كان هذه المدارس المترفة يدرس فيها أبناء الذوات وكبار المسئولين الذين نراهم في التلفزيون والصحف .
* * *
في ذلك اليوم المشهود دفع رجل في العقد الخامس من العمر ومعه أبنه باب المكتب ودخل يضرب الأرض بحذائه اللامع ، كان الرجل يرتدي بدلة غربية كاملة سوداء اللون ، على الرغم من حرارة الجو في ذلك الصيف في يوليو بالخرطوم ويحمل حقيبة سوداء برزدنت ، في الحقيقة كان الرجل يتلامع كأنه جاء من فليت ستريت رأساً إلى مكتبي الصغير المتواضع و ضمحة بالعطر الخليجي النفاذ الذي يشعر الإنسان بالدوار ، ألقى الرجل التحية باللغة الإنجليزية وجلس على الكرسي قبالتي ، التفت إلى الابن ، كان مكتنز كأبناء الأثرياء في كل مكان لاحظت حزن عميق يطل من عينه الواسعتين ويغمر وجهه الطفولي .. تحركت عقارب التقصي والغوص في الأعماق البشرية في داخلي ، يبدو أن هذا الغلام لايحب والده إطلاقاً وقد أحضره معه قسراً .. قطع الرجل استرسالي من التفكير .
- هل أنت المسئول عن قبول مدارس الكمبوني ؟ !
- نعم .
- أخرجت استمارة القبول وتعمدت مخاطبة الولد المذعور الذي يقف في انكسار .
- الاسم لو سمحت .
- رد الرجل في صلف نيابة عن ابنه .
- فلان .. الفلاني .
- وتوالت البيانات تباعاً ، أنا أسال الغلام والأب يجيب في غطرسة وتكبر .
- مهنة الوالد :
- مهندس في أرامكو .
- الدخل السنوي للوالد :
- مائة وأربعون ألف ريال سعودي .
- بالعملة السودانية لو سمحت .. أعني بالجنية :
- أحسبها أنت !!
أيقظت غطرسة الرجل كل النعرات البلشفية والأحقاد في نفسي ، أنا من عطبرة المدينة العمالية الفقيرة فانبريت له .
- أنا موظف في الدولة وليس تاجر عملة .
بهت الرجل كأنما لسعه عقرب ، نظرت إلى الغلام الذي لاح طيف ابتسامة واهنة على شفتيه ولمحت في عينيه امتنان خفي ، كان سعيداً بالرجل الذي ينكل بأبيه الطاغية على هذا النحو .. فتح الرجل الحقيبة السوداء وعبق منها عطر آخر أشعرني بالدوار وأخرج آلة حاسبة وعلبة سجارة أمريكية أشعل سجارة وأملاني عدد من ستة أرقام وكان هذا الدخل السنوي ثم انتقلنا إلى الجانب الأهم في البيانات ، رغبة الطالب في نوع الكلية الجامعية التي ينوي الالتحاق بها وهي رغبات غير قابلة للكشط أو التعديل .
نزع الرجل نظارته الطبية ووجه إلي نظرة نافذة متحديه .
- كليه الطب .. جامعة الخرطوم فقط !!
انتهت البيانات ونهض الرجل وانصرف دون مصافحتي وتأخر ابنه قليلاً وصافحني بمودة واحترام وخرج يتدحرج كالكرة خلف أبيه ، أخرجت ملف فحص الدرجات من الدرج لمطابقتها مع درجات الطالب في الشهادة .. كان متفوقاً أحرز خمس علامات من نوع ( A) * في الأربعة المواد العلمية بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية .. إذاً سيحصل على مقعد مريح في كلية الطب ، جلست ساهماً أفكر وأنا أنظر إلى مكتب رئيستي في العمل الخالي ، خرجت لتحضر ابنتها الصغيرة من حضانة في الجوار ، أخذ عقلي يعمل كالماكينة ، يستعرض الموقف الذي انقضى منذ لحظات (( أن ملابس الرجل الفارهه لاتنسجم مع ملابس ابنه العادية البسيطة كم تمنيت أن ينقطع التيار الكهربائي وهذا شيء يحدث دائماً فيتحول المكتب إلى فرن لأرى كيف يفعل ذلك الرجل الذي يحمل كل صفات الطاووس ماعدا جماله ويرفل تحت أطنان من الملابس الغربية الفاخرة .. مفتاح السيارة المرسيدس الذي ألقاه على مكتبي بطريقة استعراضية ، الدخان الذي أشعله وجعلنا أنا وابنه في جحيم التلوث السلبي للدخان .. من بين فلسفاتي الخاصة في الحياة التي تثير حنق أصدقائي " فلسفة الجحيم هو المدخنون " كنت أردد دائماً أمامهم لإغاظتهم " إن التدخين شكل من اشكال الشذوذ الجنسي الكامن وهو عبارة عن إرتكاس للمرحلة الفمية لفرويد " ألا ترون أني إنسان بذيء أحياناً .
* * *
انفجر الباب فجأة فقطع حبل أفكاري ، دخلت امرأة في العقد الرابع ترتدي ثوب موظفة سودانية أبين اللون وانفاسها تتسارع ، اتجهت إلي وعيناها تفيضان بالدمع .
- هل حضر فلان الفلاني هنا مع ابنه للتقديم للجامعة ؟ !
صدمني اندفاع المرأة للحظة ثم استعدت جأشي وبدأت أبحث في الملفات .. تذكرت أنه الرجل نفسه .. الطاووس !!.
- نعم يا والدة تفضلي بالجلوس .
ناولتها الملف أخذت تنظر في البيانات في لهفة وانهارت في إعياء على الكرسي تبكي بحرقة أدمت قلبي .. إذاً هذا هو الوجه الآخر للمأساة ، نظرت إلي في تضرع .
- هل ممكن إلغاء هذه الاستمارة واستبدالها بأخرى جديدة ؟ !
- لا يمكن للأسف هذه الاستمارة تملأ بمعرفة ولي الأمر وغير قابلة للإلغاء والتعديل .
قاطعتني في حزن بالغ وهي تجهش بالبكاء .
- أنا ولي أمره .. وليس هو .. لماذا لم ينتظرني هذا الولد العاق ؟
للأسف بدأت تتجمع في دهني خيوط القصة ، هذه المرأة الطيبة بوجهها اخالي من المساحيق الذي ينبئ بأنها لم تتزوج مرة أخرى بعد الانفصال من ذلك الرجل السادي وبذلت شبابها من أجل تربية ولدها المتفوق الذي كان يقيم معها .. المنطق وحده يؤكد ذلك لو نشأ ذلك في كنف إبيه لكان مصيره المصحة وليس الجامعة ، نظرت إليها وقد هاجت نفسي كل الشعارات الأممية التي تدعو للتضامن مع المرأة ووضعها المزري في المجتمع الرأسمالي ألم أقل لكم بأني حاقد وبذيء وشيوعي أيضاً !! .
- أني جد آسف لك يا والدة لابد أن نكون واقعيين مهما كانت الظروف
إنك ترضي أن يكون ولي أبنك امرأة مع وجود والده على قيد الحياة ، إن ذلك يهز صورته أمام أصدقائه الذين يقفون خارج المكتب مع آبائهم .
وكأنما انصب على المرأة ماء بارد واستعادت جأشها وهدأت أنفاها كففت دموعها ، المسكينة كانت أشبه بملاكم صمد خمس عشر جولة ليسقط في الجولة الأخيرة بالضربة القاضية ، رددت في ود .
- نعم يا ولدي هذا عين العقل ، فقط كنت أريده أن يدرس الهندسة .
- الهندسة أو الطب كلها كليات مرموقة .
نهضت المرأة وإكراماً لها خرجت معها إلى خارج المكتب ، هناك كانت سيارتها الأوبل البيضاء القديمة ، كانت مثلنا مواطنة محلية داخل السودان ، استعنت ببعض المارة لدفع السيارة حتى يشتعل المحرك ، تقدمت منها أودعها وأنا أسعل بشدة من الدخان الكثيف الذي خرج من السيارة .
- أنتِ…امـرأة عظ….ـيمة يا والدة..لكن"الخيل تجقلب والشكر لحماد"*
أضاءت وجهها ابتسامة عريضة ، فقد أثلجت صدرها كلماتي الأخيرة فرددت كلماتي
- الخيل تجقلب والشكر لحماد.. نعم إنه كذلك ..
استدرت عائداً إلى المكتب بين أفواج الطلاب وأولياء الأمور ، لازالت نظرة الامتنان والشكر التي كانت في عينها ماثلة أمامي " الحدم لله على كل حال .. يوجد على الأقل شاهد إثبات واحد يعرف أن ذلك الغلام المتفوق صنعته تلك السيدة الفاضلة " .
دخلت المكتب ووجدت رئيستي في العمل قد عادت من الحضانة مع ابنتها الصغيرة وهي تنظر إلى مكتبي الخالي في استغراب .
- عدت منذ لحظة ووجدتك تقف مع سيدة في الخارج .
- نعم … ويالها من سيدة .
- بالمناسبة اليوم مررت على سينما النيل الأزرق .
- ماذا يعرضون مساء اليوم ؟
- الفلم العربي " لاعزاء للسيدات "
ضحكت بصورة مفاجئة ضحكة مجلجلة أربكت رئيستي في العمل .. لكنها تعرفني دائماً بأني إنسان غريب الأطوار وهي أيضاً امرأة طيبة مثل كل النساء في السودان ، لم أسمعها أبداً تتحدث معي عن زوجها !!
* * *
مثل سوداني : الفرس يكسب السباق والفارس يأخذ الجائزة .

عصام .… الخريج الذي فقد نفسه
- ألم تظهر وظيفة جديدة ؟ ‍
أخرج عصام بطاقته وناولها للرجل الذي قلب في الأوراق أمامه ثم رد البطاقة وأجاب
- نأسف لا توجد وظيفة لك ‍‍‍‍‍‍‍!!
- لماذا لا توجد وظيفة لي ؟ ‍!
- أنت محظور .. هل كنت تمارس نشاط سياسي أبان دراستك للجامعة ؟
- نعم كنت في الجبهة الديموقراطية .
- هل لا زلت تمارس السياسة اليوم ؟
- لا إني أتضور جوعاً لا أجد الوقت الكافي لتعاطي مع السياسة .. هل هذا يعني أني لن أحصل على وظيفة ؟
- يمكنك معاودتنا دائماً ، ربما رفع عنك الحظر أو صدر قرار جديد .
رد عصام في نفسه " ما جدوى الانتظار .. حتى إذا حصل على وظيفة لابد أنهم سيحيلونه للصالح العام لسبب نفسه .. إذن سينتظر الديمقراطية " .
نفس الأسئلة ونفس الإجابات لا تتغير وتمضي تباعاً ، هذا الرجل المحنط الذي يجلس خلف النافذة . هذا العاطل عن المواهب ، تحول إلى إنسان آلي يرد ببلاهة يحسد عليها ابتعد عصام من النافذة ، خرج يجرجر أذيال الخيبة . هذا العام الثاني وهو يطارد أحلام الوظيفة من خلال هذا الرجل أبو الهول الذي يقبع خلف الشباك في لجنة الاختيار للخدمة العامة السودانية .
* * *
ظل عصام يسير مترنحاً من فرط الجوع .. وهو لا يكاد يتحصل عن ثلاث وجبات في اليوم كما أن مصروفه الاحتياطي الذي أحضره معه من البيت قد بدأ يضمحل .. كانت ظاهرة الثراء الطفيلي والانفتاح تحيط به من كل جانب العربات ذات الدفع الأمامي . المباني الضخمة للبنوك ، محلات السوبر ماركت تعج بالحلويات التي لا تشبع ولا تغني من جوع .
جلس عصام تحت ظل شجرة لبخ ، قبعت تحتها امرأة تبيع الشاي تناول منها كوب ، أخذ يرشف الشاي في مرارة بعد أن أراح جسده المنهك على حجر جوارها ، كانت الأوراق النقدية من فئة العشرة جنيهات تنهال على المرأة كالمطر وظن عصام أنها تقترب من المئات " تباً لهذه الشهادة الجامعية اللعينة فهذه المرأة دخلها اليومي يبدو أكبر من دخل وكيل وزارة …. اللعنة كل شيء أصبح بالمقلوب" نهض عصام وختم جولته اليومية بالسفارات العربية وأعاد أدراجه بعد أن حشر نفسه حشراً في إحدى الباصات المنهكة التي يتعلق بها الكادحين تعلق النمل بقطعة السكر ، كان الحر قائظ ، وصل عصام إلى منزل عمه في أم بده ، منزل متهالك ، دخل إلى الغرفة ، طالعته بصورته الباهتة كالمعتاد في مرآة خزانة الملبس القديم نظر في ذعر إلى نفسه فقد بدت صورته باهتة فعلاً ، " ما هذا ؟! هل في طريقه إلى الاختفاء ؟؟ " إ، صورته غير واضحة المعالم . حاول صاحبنا إنارة الغرفة ، للأسف لا يوجد تيار كهربائي فتح جميع النوافذ نظر إلى نفسه في المرآة مرة أخرى " يبدو أن في الأمر خلل ما " صورته فعلاً باهتة ، قد يكون ذلك ناجم من الحالات النفسية التي تعتريه ، إن الإحساس بالضآلة يولد لديه هذا الإحساس الكئيب " لا بأس ، لا بأس ، غداً سنرى " . أخرج عصام الفرش المتهالك في الفناء واستقلى عليه ونام .. في الصباح نهض وبدأ يحي أبناء عمومته فرداً فردا فينظرون حولهم في دهشة ممزوجة بالرعب أوجس خيفة ، دخل الغرفة ونظر إلى المرآة " يا للهول !! اختفت صورته تماماً ، إذن فقد تلاشى، كيف حدث ذلك ، لم يعد هناك أدنى أثر لصورته في المرآة" تملكه ذعر شديد " كيف يمكنه التعامل مع الناس ؟!.. كيف سيحصل على وظيفة وقد اختفى عن الأنظار " حتى بني عمومته لم يروه . حاول طرد هذه الأوهام وليكن ما يكون . أرتدى ملابسه على عجل وخرج . ركب الحافلة المكتظة ولدهشته الشديدة تجاوزه الكمساري دون أن يطالبه بالنقود " لم يره الكمساري أيضاً !! ما هذا الكابوس المزعج " نزل كالمعتاد في المحطة الوسطى في الخرطوم وتوجه نحو لجنة الاختيار اللعينة .. نزل وتقدم بخطى ثابته نحو النافذة المعهودة وجد نفس الرجل .
- السلام عليكم .
- …………… نظر الرجل إلى الفراغ الخالي في دهشة !! .
- هل توجد وظائف خالية جديدة من فضلكم ؟
هب الرجل كالملسوع يحملق في الفراغ أمامه وهو لا يعلم من أين يأتي هذا الصوت تجمع بقية الموظفين حول الرجل المذعور ، كان هناك صوت مجهول يتحدث إليهم … كان الصوت واضح النبرات وتشوبه المرارة .
- أخبروني .. ألا توجد وظائف جديدة ؟ !
صعق رجال المكتب عندما رأوا شهادة جامعية وبطاقة شخصية تخرجان من مكان مجهول في الفراغ أمام النافذة وتسبحان في الهواء في طرقهما إليهم ، دب الذعر في المكان وعرف عصام المسكين إنه اختفى تماماً من جراء تعاظم إحساسه العميق بالضآلة الناجم عن الأوضاع المقلوبة في البلاد التي أصبح فيها العذراء اكثر من المزارعين والبنوك أكثر من المستشفيات .
تم إغلاق مقر لجنة الاختيار للخدمة لاحقاً بعد أن أصبحت مسكونة بالأشباح التي تخرجت من الجامعات والمعاهد العليا .

النازحين يصعدون إلى السماء
فتح النافذة وأطل منها كعادته كل صباح ونظر إلى معسكر النازحين الذي يقع في الجوار … هذا المعسكر يضم كل متضررين الحرب في جنوب السودان .. كان المعسكر المشيد بالخرق ، أشبه بالبثور تقبح وجه الحي الراقي الذي تقيم فيه شقيقته مع زوجها الثرى ، خط سكة حديد وطريق اسفلت يفصل بين الجنة والنار شرد بعينيه بعيداً حيث كانت نقطتان تتحركان لرجل يحمل خرقة بين يديه تحوي جسد صغير وامرأة تسير مترنحه " اللعنة " هذه الجثة الرابعة والعشرون ، منذ أن هاجم رجال الأمن المركزي المعسكر بحثاً عن قتلة عثمان صهر الشيخ عبد الباسط تاجر العملة الكبير وذو النفوذ الجبار .
* * *
أن لمقتل عثمان قصة غريبة يكتنفها الغموض في يوم عاصف ، قبيل الغروب سمع أهل الحي دوي طلق ناري حملته الرياح التي كانت تعبث بالتراب في الضاحية النائية .. في صباح اليوم التالي عثرت الشرطة على جثة ملقاه جوار المعسكر وبجانبها حقيبة مليئة بالعملات الأجنبية ، كان قادماً من السعودية .. إنتشرت الاشاعات أن ذاك ، إن الذين قلتوه هم قطاع الطرق ، قامت الشرطة بمهاجمة المعسكر بحتاً على القتلة وإقتادت نفر غير قليل من المعسكر إلى المحفر .. أخبرته ميرى وهي إمرأة من النازحين ، تحضر إلى المنزل تغسل الملابس .. أن الشرطة استخدمت الغاز المسيل للدموع وقد أدى ذلك إلى موت العديد من الأطفال .
ظلت هذه التداعيات تدور في خاطره وعيناه تتابع الرجل والمرأة في طريقهم إلى المقابر … كانت المرأة تولول والرجل يحمل الطفل المسجي كالخرقة ، تنهد غازي وردد في نفسه في آسى " هؤلاء المساكين الموت وحده هو الذي يساويهم مع سكان الضاحية … كانوا يدفنون موتاهم في مقابرها " .
* * *
ظل غازي يتابع الجنازة بعينين دامعتين ، كانت جنازة مهيبة ، موكب مكون من شخصين فقط أب وأم وطفل فارق الحياة في لحظة من لحظات الزمن الأسى … ارتدى ملابسه على عجل ونزل الدرج وانطلق صوب الموكب الحزين الذي كان قد شارف على المقابر .. قام بمساعدة الأسرة الصغيرة في دفن فقيدها ، لم يكن ذلك يثير الدهشة … لأن كل سكان المعسكر يعرفون غازي سليمان المحامي الثائر الذي كان يتصدى دائماً لحملات الشرطة الجائرة ويدافع عنهم في المحاكم بدون أجر … كما أن شقيقته وزوجها الفاضل لهم أيدي سابغة على أطفال المعسكر.
سار غازي مع الأسرة بعد انتهاء مراسم الدفن ودخل إلى المعسكر وطفق يتجول بين أكواخ النازحين والنساء والتواكل ، أخذ يتحرى منهم عن من قتل المذكور عثمان ؟! أنكر كل من له قدرة على القتل ارتباطه بأي جريمة من هذا النوع .. كان يعرف أنهم يصدقونه القول … كان شد ما يخيره (( أن القاتل لم يأخذ معه النقود إذا … ماذا كانت دوافعه ))؟!
* * *
جلس غازي وصديقه الرائد محجوب في الكافتيريا على مقعدين يطلان على النيل تبدو عليهم الحيرة الشديدة يتداولان أمره هذه الجريمة الغامضة … ونهضا واتفقا أخيراً أن يسعى كل منهما إلى مزيد من الجهد ومضت الأيام كاد اليأس يتسرب في نفس غازي ، حتى حدثت مفاجئة أخبرته ميرى المذعورة التي تغسل الملابس في بيوت الأثرياء بالقصة العجيبة أن رجل التقطها من الطريق وأخذها إلى البيت هناك حذرها الرجل بأن لا تدخل إلى داخل المنزل فقط تجلس في الفناء تغسل الملابس بعد خروج الرجل سمعت نشيج مكتوم ونواح ينبعث من داخل المنزل … نهضت وهرعت إلى داخل ضاربة بكلام الرجل عرض الحائط .. سمعت طرق عنيف على باب إحدى الغرف … فتحت الباب امرأة نصف مجنونة تصيح وتولول بأن زوجها أطلق على صهره النار وقتله ! . قتل عبد الباسط شقيقها القادم من السعودية أثناء لعبهم للقمار وقد لعبت الخمر برأسيهما … حبسها الرجل حتى لا تبلغ الشرطة" .
* * *
جلسا في مكانهما المعهود في الكفتيريا أخبر غازي صديقة محجوب بالقصة وامسكا بطرف الخيط وتلي ذلك أن توفرت معلومة أخرى … أخبر شرطي الدورية الذي يجلس عند الطريق ، أنه في ذلك اليوم الأغبر كان يقف على جانب الطريق ،رأي سيارة مرسيدس زرقاء تنطلق بسرعة لا تلائم ذلك الجو العاصف كان يبدو على سائقها المخمور الرعب الشديد ويحدثه الأمني سجل رقمها … وبذلك اكتملت خيوط القصة إذا قتل الرجل الثري صهره كعادة المترفين عندما يختلفون ودفع ثمن ذلك أهالي المعسكر التعساء .
* * *
بدأت المرحلة الصعبة والمؤلمة فقد فشلت تماماً جهود غازي وصديقه محجوب في إدانة الرجل أستغل عبد الباسط نفوذه الجبار في الدولة حتى لا يلتف حبل المشنقة حول عنقه … نقلت زوجته إلى المصحة بعد أختل عقلها تماماً وأضحت لا نصلح كشاهدة إثبات مات شرطي الدورية في ظروف غامضة ، تناول طعام مسموم أعطاه له أحد سائقي السيارات الذين يمرون بالمكان .. أقيل محجوب وفصل من سلك الشرطة … تعرض غازي لضرب مبرح من رجال مجهولين في ليلة ممطرة وأصيب بكسر مضاعف جعله يمشي على عكازتين .
* * *
أوقف الصديقان سيارتهم عن كتب ينظران إلى سكان المعسكر يجوسون كالديدان بين الخرق والخيام المتناثرة ، التفت أحمد إلى صديقه الساهم .
- أنا خسرت ساقي ، وأنت فقدت وظيفتك ، ولا زال المعسكر يعاني من الشرطة والغاز المسيل للدموع .
- نعم إنه كذلك : كنا أشبه بمن يريد أن يوقف قطار مندفع بالوقوف أمامه .
التمعت فكرة في ذهن غازي فالتفت وحدق في عيني صديقه الدامعتين في إصرار .
- وجدت الحل لسكان المعسكر المساكين.
نظر أحمد إلى القمر البازغ في كبد السماء والذي كان يجلو بأشعته الفضية المكان حدق محجوب في دهشة إلى صديقه الذي هب واقفاً على عكازتيه .
- هيا معي !!
- ماذا تريد أن تفعل .
ردد أحمد في نبره تشقى .
- سأصعد بهم إلى السماء !! إلى مدينة الله التي لا يظلم فيها أحد …..
* * *
كان التقرير الذي أرسله قائد الطائرة البوينج الأمريكية التي كانت تمر عبر أفريقيا في ذلك المساء ، غريب حقاً أزعج الإدارة الأمريكية وفسر ظاهره اختفاء سكان المعسكر الذي كانت تعوي فيه الرياح " أكد الطيار أنه أثناء مروره ليلاً بالطائرة فوق السودان شاهد أقوام ترحل صوب السماء ، يتقدمهم محامي أعرج وضابط شرطة في مقتبل العمر ،يستشعران المرارة وتبدو عليها الكآبة الشديدة" .
1989م شيمات الارامي

الطيب والشرير والقبيح
كانت جدتي الحرم امرأة تجللها الحكمة … عندما كنا صغار ، نعود إلى قريتنا الوادعة في شمال السودان مورا . في موسم حصاد التمر كانت تسكن في بيتها وحيدة بعد رحيل زوجها ود العقيد منذ أمد بعيد وقد أعلنت مرارا أنها لن تربط حمار في مكان حصان وفي الليالي المقمرة نقبع نحن الصغار عند قدميها وتحكي لنا " كان يا ما كان في قديم الزمان سلطان .. هذا السلطان عندما طال به الأمد طغى وكاد ان يقول أنا ربكم الأعلى بلغ الصلف والتعسف به مداه ن جمع يوما علماء السوء حوله وزعق فيهم حتى كادت تسقط سراويلهم وعبس وبسر وقال : أريد منكم ان تعلموا بعيري هذا القراءة والكتابة .
أسقط في أيدي القوم ، امتلأت قلوبهم رعبا ، هذا السلطان يعي ما يقول ويجب أن يطاع في المنشط والمكره … كيف يتسنى لهم أن يعلموا هذا الحيوان الأعجمي الكتابة ؟!
اجتمع العلماء يتداولون أمرهم ، وأمر هذه المصيبة الني وقعت على رؤوسهم الفارغة وكروشهم الممتلئة .. بعد حين صاح كبيرهم الذي علمهم السحر "وجدتها … وجدتها " كما فعل أرخميدس عندما أكتشف قانون الطفو ، حملق فيه بقية العلماء في دهشة يشوبها الارتياح .. لابد أنه الحل الذي سينقذ رقابهم ابتسم كبيرهم في خبث ومسد لحيته الصفراء ومد عنقه طويلاً وأردف " الشيخ فرح ود تكتو " عدونا الكبر الذي يؤلب عينا المزارعين نخبر السلطان أنه لا أحد يقدر على هذا العمل الفذ سوى الشيخ فرح وله باع كبير في هذا الشأن منها تتخلص منه ونزيح عن كاهلنا هذا العبء الكبير .
ووافق الجميع دون استثناء .
كان إقناع السلطات من أسهل الأمور التي يتقنها كبير السحرة ، كان يجيد لحن القول ، تمكن فعلاً من إقناع السلطان واكتملت خيوط ألموا مرة .
في الصباح حضر الشيخ فرح بين يدي السلطان ومعه أربعه من تلاميذه النجباء ، كان يقف شامخاً كالطود وبصوته القوي الواثق أعلن عن موافقته على تعليم البعير ، لكن بشرط أن يمهله السلطان سبعه أعوام ، آذن له السلطان بذلك خرج الشيخ الجليل مع تلاميذه يقود البعير وسط دهشة حاشية السلطان وعلماؤه اللذين تنفسو الصعداء وأنتشر الخبر وعم القرى والحضر .
كان تاج الدين تلميذ الشيخ النجيب وأحد الأربعة يعلم الموآمرة التي حاكها كهنة ، سدنة القصر وأقبل على إستاذه في جزع بعد مبارحتهم القصر يستفسره عن كيفيه تعليم البعير …. تنهد الشيخ وردد الكلام الذي أثلج صدر تلميذه البار "يا أبني بعد سبعه أعوام لكل حادث حديث … أما مات الأمير أو البعير أو العبد الفقير" ثم التفت الشيخ يخاطب تلاميذه في نبرة آسرة " يا أبنائي … إياكم ومجالسة السلاطين فإنهم يأخذون من دينكم أكثر مما تأخذوا من دنياهم "
مضت السنتين تباعاً استدار الزمن دوره كاملة وطحن برحاه الكثير من أبناء البلاد المساكين وأزفت الساعة المرجوة وجاء جنود السلطان في طلب الشيخ الجليل اغتسل الشيخ ذلك اليوم وصلى ركعتين ورفع يديه إلى السماء متضرعاً "يا حي يا قيوم … عبدك الفقير لا يصل إلى الخرطوم " .
وكان للعبد الصالح ما أراد في الطريق من أم ضواً بان إلى الخرطوم مات العبد الفقير واجتاح الطوفان الغاضب البلاد وهرب الأمير ونلى ذلك أن حكم البلاد البعير !!
" طارت ثم حطت ودخلت في مؤخرة أصغركم " هكذا كانت الجدة العزيزة تختم قصصها البديعة على هذا النحو الفاحش ، وينفجر أخي الصغير باكياً مع ضحكاتها المجلجلة … طيب الله ثراها .

حقل السمسم
ظل الباص يشق به الطريق المترب وحقول السمسم اليانعة تحيط به من كل جانب وتعطر حوله الفضاء كمال الطشي من أبناء اليمن ، ولد في السودان من أب يمني وأم سودانية في أواسط الخمسينات عندما كان السودان مزدهراً ومضيافاً ، اليوم في منتصف الثمانينات ، بعد أن سافرت أسرته وعادت مرة أخرى إلى اليمن ، بقي وحده في السودان من فرط حبه لهذا البلد الطيب وقد درس في جامعة العتيدة جامعة الخرطوم في كلية الزراعة : أخبر والده في المطار أنه سيبقى في السودان ويدير ما تبقى من أملاك والده ، البقالة وبيتهم في الصافية.
سرح بخيالة بعيداً والباص يترنح في الطريق المترب وسط لغط الركاب ، كان الطريق مألوفا وهذه ليست أول مرة يزور شرق السودان .. بمعنى أدق قرية صديقة المرحوم الغالي .. قبل ثلاث سنوات جاء بجثمان صديقه مع وفد طلابي كبير تذكر آنذاك الاستقبال الحزين من أسرة صديقه وأهل البلدة ونواح النساء إن انطفا طالب جامعي في هذه المناطق النائية شئ مؤسف … مات الغالي من غمرة الاشتباكات والعنف الطلابي الذي كانت تنؤ به جامعة الخرطوم ….… عبد السلام قتل الغالي وكلاهما صديقاه ، عبد السلام من الشمال والغالي في الشرق ، عبد السلام يساري والغالي يميني كلاهما كان ضحية التحريض المتشنج الذي كان يثير امتعاض كمال كثيراً ويرى فيه منتهى الابتذال عندما يقتل أبن عامل في السكة حديد أي مزارع بطعنة واحدة نافذة في القلب .
أردته قتيلاً … وانتهى الأمر في المحكمة إلى براءة عبد السلام بعد أن شهد شهود عدول أنه كان في حالة دفاع عن النفس .
عندما جلس كمال مع والد الغالي المكلوم ، كان يعرفه من فرط حديث أبنه الراحل عنه ، لذلك اصطفاه بشجونه الخاصة بأنه حذر ابنه مراراً بأن الجامعة ساحة علم وليس ساحة قتال و أهلاك … وإنهم ادخروه لياتي ويعمل مفتش زراعي ويكون مصدر إعزاز لأبوية وللمنطقة التي تقوم بزراعة السمسم بواسطة الأمطار …كلمات والد المقتول التي ظلت تردد في أعماق كمال ذو الفطرة اليمنية الطيبة واختزنها في قلبة الذهبي عبر السنين حتى تخرج من الجامعة وهي التي عادت به مره أخرى إلى البلدة ، حتى يحقق للأب الحزين حلمه المجهض ، طافت على شفته ابتسامة ظفر وتحسس جيب سترته حيث يقبع جواب التعيين ثم اغمض عينيه وردد في نفسه سيثبت للأهالي قيمة الجامعة في تطوير الزراعة باستخدام أحدث الوسائل ، خاصة أنه تخرج بمرتبة الشرف من قسم إنتاج المحاصيل .
* * *
توقفت السيارة ، نزل منها كمال وحمل حقيبته وأتجه في طرقات القرية مر على دكان عم عثمان وحياه بحرارة وتناول عنده مشروب بارد ، ثم نهض وأنصرف نحو البيت المألوف ، استقبله أبو الغالي بالأحضان وجاءت أم الغالي تتلمس طريقها إلى الضيف العزيز فقد ابيضت عيناها حزناً على وحيدها ، فرح الأبوان فرحا شديداً عندما عرفا أن كمال سيقيم معهم في البيت ويترك بيت الحكومة في محطة الأبحاث الزراعية ، ادخلاه إلى غرفة صديقه المرحوم … كانت مرتبة كما رآها منذ سنتين ، صور الأصدقاء ورحلات الجامعة تغطي الجدران ، استلقى على الفراش وتنفس الصعداء ثم اغمض عينه وغرق في سبات عميق …
* * *
في اليوم التالي أستيقظ مبكراً ، أغتسل وارتدى ملابسه على عجل وتناول الإفطار مع الأسرة ، وخرج مع والد الغالي نحو محطة الأبحاث ، هناك وجد لفيف من المزارعون متجمعين حيوه بحرارة ، أدرك كمال حجم التحدي الذي يواجهه إن عليه أن يعزز ثقتهم في استعمال سماد اليوريا والأسمدة الحديثة التي يتوجس منها المزارعون البسطاء حتى إنهم يرون دائماً ن هذه المواد الكيمائية التي تأتي من بلاد الكفار لا نفع فيها وإن الأرض تنتج غلتها بالبركة والعمل الصالح لصاحبها … ظل الحديث سجالاً بين كمال الذي يؤمن بالعلم التجريبي الذي دراسه في الكلية وبين المزارعين وأو رآهم الغيبية وإيمانهم العميق بالقدر … قطع أبو الغالي قول كل خطيب عندما تبرع بأرضة ليجرب فيها المفتش الجديد السماد الحديث ، تهللت أسارير كمال وعرف أن أبو الغالي فعل ذلك إكراماً لصديق ابنه الوفي …
كان أبو الغالي يحب كمال ويرى فيه روح ابنه الراحل منذ أنى رآه أول مره عندما حضر في تلك السنين الغابرة مع الجثمان وبثه أشجانه …. فقد عرف أن كمال عاد مرة أخرى إلى البلدة لأجله .
* * *
عاد كمال إلى الخرطوم مرة أخرى ليحمل شحنة السماد الذي اشتراه من شركة مشهورة ، متخصصة في استيراد الأسمدة يملكها طبيب بشري ثري جداً من التيار اليمني الذي يؤيده صديقه الراحل ، كان كمال في أشد الشوق إلى تطبيق ما درسه عملياً قفل راجعاً دون أن يزور صديقه عماد الذي يعمل في المعمل المركزي ويهنئه بزواجه الميمون فقد وجد رسالة منه في البقالة في الصافية التي استأجر كمال رجل من أبناء غرب السودان لإدارتها ، حاج آدم ، صديق والده الحميم …
* * *
عاد كمال إلى البلدة وظل يعمل بجد ونشاط مع والد الغالي في تسميد الحقل بالسماد الجديد ، أراد كمال أن يجرب السماد في نصف الحقل إلا أن أبو الغالي حلف بأغلظ الأيمان أن يقوما بتسميد الحقل كله ، نزل كمال عند رغبته ومضى الزمن بدأت الحقول تزدهر من حولهم ، محملة بسنابل السمسم الذهبية وحقلهم يزوي مصفراً خاوياً على عروشه إلا من أعواد متيبسة هزيلة أوجس كمال في نفسه شياً وبدأ يشعر بالإحباط يتسلل في دهاليز نفسيه " لابد أن هناك خلل ما !! " .. كان يرى في عيني أبو الغالي نظرة العطف والإشفاق التي لا تخلو من الأسى العميق لهذه الخسارة الفادحة ، ثم بدأ المزارعون يثرثون بما يكره ، كان وقع الكلام في أذني كمال كوخز الإبر ، ظل أبو الغالي يتحمل غمزهم ولمزهم في صبر الجبال فهو رجل أعتاد الصبر الجميل …. إلا أن كمال الذي كان اكثر ما يتسرب إليه حديث أبو الغالي الهامس الحزين مع زوجته الوفية ليلاً .. بدأ يشك في جدوى دراسته الجامعية جدوى السماد اليوريا ويجمع شتات إرادته المضعضعة ويبحث عن حل علمي لهذه الكارثة ، حمل عينة من تربة الحقل المنكوب وعينة من السماد حيث يعمل صديقة عماد …
* * *
بعد يومين كانت تنتظره مفاجئة رهيبة ، أن الشركة التي اشترى منها السماد كانت تخلط السماد بالجير ، لذلك أحترق محصول السمسم وتحولت التربة إلى أرض قلوية ، لقد أغتال السماد المغشوش للأرض ، وأصاب أبو الغالي في مقتل طعنة نجلاء أخرى ، في ذلك اليوم بكى كمال بكاء مراً لهذه الهزيمة النكراء التي حاقت به في بداية مشواره في العمل ، حمل تعزيز المعمل المركزي مع صديقة عماد عضو الحزب اليساري المحظور ،وقدما بلاغ إلى النائب العام ضد الشركة المشهورة .
* * *
شطب البلاغ وفصل عماد من العمل وأحيل إلى الصالح العام وتم حماية الشركة وصاحبها المستنفذ … استشاط كمال غاضباً وباع أملاك والده وترك البقالة فقط لصديقة والده الحميم حاج آدم وحمل الأموال وسافر إلى البلدة ليلاً وضع المبلغ مع رسالة عند عثمان صاحب البقالة وأوصاه بأن يسلمها إلى أبو الغالي عند صلاة العشاء وأنسحب يجر جر أذيال الخيبة وفي دهنه تدور فكرة واحدة الخروج من هذا البلد الذي خبث …فسافر إلى اليمن غضباناً آسفا …
* * *
عندما أعطى حاج عثمان صاحب الدكان الأمانة والرسالة إلى أبي الغالي ، أنهار المسكين جالساً وأخذ يتمعن في الرسالة وردها لعثمان يقرأها له ، انحدرت دمعة مرة حبسها سنين وهو يستمع إلى آخر فصول المهزلة وتهدج صوته "لا حول ولا قوة إلا بالله…عليهم لعنة الله إلى يوم الدين " ثم نهض يجر قدميه في تثاقل نحو بيته ، دخل من الباب حيا زوجته في مرارة فلمست فيه نبره حزينة ، لم تألفها من قبل ، أوجست خيفة ،لم يشأ أن يخبرها برحيل كمال استلقى في الفراش وأطلق العنان لدموعه ……
* * *
هب من رقدته وقد عصف به غضب مدمر اختطف شعلة نار من الموقد التي تعد فيه زوجته العمياء الشاي واندفع خارجاً نحو الحقل وألقى فيه الشعلة ، سرت النار لتضيء الفجر الحالم وهي تلتهم أعواد السمسم في شره شديد ، كان طيف أبنه الراحل يقف جواره بنظارته الطبية وصوته الهامس .
- لماذا أحرقت الحقل يا أبي ؟.
- لقد أحرقوا فوادي مرتين يا ولدي .
- انه السماد المغشوش .
- نعم يا ولدي أنه السماد الفاسد .
- سامحني يا أبي أني بريء من هؤلاء .
- الله يرحمك يا أبني .
جاءت أم الغالي الضريرة تدفع جموع المواطنين الذي تحلقوا حول زوجها المجنون وقادته إلى البيت وهو يرغي ويزبد …
في صباح اليوم التالي لم يعثر السكان على الأسرة المنكوبة ،رحل العجوزان عن البلدة وخلفا وراءها بيت مهجور يضج بالذكريات وحقل سمسم محترق يتصاعد منه غاز ثاني أكسيد الكربون …
6/4/2000م








#عادل_الامين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيرة مدينة: مك الدار
- مقالات سودانية:المحكمة المهزلة .. وعار الأبد !! ... بقلم: د. ...
- سيرة مدينة: العمة نورا وسوق الزيارة
- اليقين والقدر
- السودان صراع الرؤى وازمة الهوية
- اخر جرائم مصطفى سعيد
- الساقية...(رواية سودانية)
- رواية-عازف الكمان-
- لم تنهار الاشتراكية بعد...
- سيرة مدينة:سباق المسافات الطويلة
- أركاماني المؤسس الأول للدولة السودانية المدنية 270- 260 ق.م.
- مقالات سودانية:الإسلام كنظرية نقدية
- سيرة الرجل الذى ناضل لكل الاجيال
- صباح الخير عام 2008
- الحوار المتمدن والثورة الثقافية
- اللعنة التي حلت بالمكان
- الفكرة الجمهورية...حياة الفكر والشعور
- تراتيل الصحابة
- سنت جيمس
- مثلث حلايب والرابطة التجارية لدول البحر الأحمر


المزيد.....




- بوغدانوف للبرهان: -مجلس السيادة السوداني- هو السلطة الشرعية ...
- مارسيل خليفة في بيت الفلسفة.. أوبرا لـ-جدارية درويش-
- أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة
- نيكول كيدمان تصبح أول أسترالية تُمنح جائزة -إنجاز الحياة- من ...
- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - قطار الشمال الاخير(مجموعة قصصية)